دنقلا العرضي تلك المدينة الرائعة، كانت مركزا صغيرا تحولت في عهد حكومة الرئيس الاسبق جعفر نميري الى عاصمة للمديرية الشمالية ثم عاصمة للولاية الشمالية. عندما كانت مدينة صغيرة تؤدي دورها الاقتصادي والثقافي والعلمي كانت لها نكهة مميزة، وحين كبرت وتوسعت وأصبحت لها امتداداتها شمالا وجنوبا، وسكنتها العديد من القبائل المختلفة من شتى أنحاء السودان، تغيرت نكهتها تماما، وهجرتها العديد من الأسر العريقة. لم تعد تلك المدينة الحالمة التي كان تجارها يبسطون موائدهم العامرة باصناف الأطعمة التي لم تعرفها مدن السودان الأخري، ولم تعد رائحة الرغيف البلدي تفوح من بيوتها العريقة، وروائح الند والبخور تعبق في المتاجر الممتدة التي تحولت الان الى أكشاك متداخلة تعج بالناس الهائمين بين أزقتها دون هدف، لم تعد تلك الأصوات التي كانت ترتفع من الباعة وهم يستخدمون لهجة أهل دنقلا المحببة، فمن منا لا يتذكر بائع الطعمية وهو ينادي (الطعمية ، تفتح النية ، تخلي العجوزة صبية) أو القفشات الصادرة من الجزارين وهم يدعون المارة للشراء من ذبيحتهم التي كانوا يطوفون بها أرجاء السوق في الليلة السابقة لذبحها يتبعهم الاطفال والمتطفلون وهم يرددون بأعلى أصواتهم " الجاموسة حلوة عروسة، الجاموسة حلوة عروسة " وصيحات الجمهور في سينما عمر ابو الحسن "شي لله يا سادات ويا ويكه الحجارة جات) تعبيرا عن غضبهم لتقطع عرض الفيلم ذلك قبل أن يستبدل أجهزة العرض السينمائي بأخري حديثة وقبل أن ينافسه قرشي بأنشاء دار سينما جديدة تعرضت للعديد من مظاهر الاحتجاج من قبل أهل دنقلا المحافظين. دنقلا التي أحاطت نفسها بسياج قوي من العادات والتقاليد ، فهي مدينة متدينة، وقد تعجب عزيزي القاريء حين تعلم أن هنالك نساء في دنقلا لم يرين السوق في حياتهن، فمن العادات المرعية أن لا تذهب المرأة الى السوق مهما كان السبب، والمرأة التي يشتري زوجها الخبز من السوق تكون قد أتت بذلك أمرا عظيما في عرف أهل دنقلا. وعلى الرغم من وجود بار الخواجه اسحق بها الا ان عدد المعاقرين للخمر كان محدودا جدا، ولذلك نشأت البانجديد شماليها تتيح فسحة من الانعتاق من قيد دنقلا الحديدي، وقد ارتمت البانجديد الآن في احضان مدينة دنقلا فانتظمت فيها المآذن وحلقات القرآن الكريم ومدارس العلم.
دنقلا العرضي حين وصلها كتشنر غازيا السودان، أرسل منها تقاريره الأولى الى بريطانيا وصدرت بها أول نشرة صحفية باللغة الانجليزية باسم (دنقلا استار ) كانت في الغالب تهتم بأخبار ووقائع الجيش الغازي، كما أعجب بها الانجليز وبالتحديد بالذكاء الفطري الخارق للدناقلة فاطلقوا اسم (دنقلا) على مقياس تحديد الذكاء وهو عبارة عن أسئلة معينة تحدد الاجابة عنها مستوى ذكاء الشخص الذي أجري عليه الاختبار ذكر ذلك الرائد عصمت زلفو في كتابه القيم عن موقعة كرري.
لقد كانت دنقلا في القديم شونة (أي مركزا لتجميع أموال الضرائب والعشور أبان سلطنة سنار وكانت الاموال في معظمها عبارة عن غلال وحبوب )، ثم اتخذها جيش اسماعيل باشا مركزا للجيش ومن هنا جاءها اسم (الأوردي) من الأورطة أي الفرقة العسكرية، وقد عربت هذه الكلمة التركية(الأوردي) الى العرضي بالعين، غير أن الدناقلة ما يزالون ينطقونها بلفظها الحقيقي (الأوردي)، أما دنقلا التي كانت عاصمة النوبة ابان الفتح الاسلامي فهي تسمي الان (دنقلا العجوز) أو الغدار بينما تغير اسم الأوردي الى (دنقلا)، واصل كلمة دنقلا من الدنقل بضم الدال وهو الطوب الأحمر بالنوبية، ذلك أن مباني دنقلا في العصور القديمة كانت من اللبن والطوب الأحمر، وأصبح من يسكن في منطقتها دناقلة وان كانوا ينحدرون من أصول عربية أو مصرية أو تركية أو نوبية، وأصبحت الدنقلاوية من ثم ثقافة وليست عرقا وبالتالي فان كل من تحدث بالدنقلاوية أو انحدر من منطقة دنقلا فهو دنقلاوي، والدنقلاوية خلاصة لأرقى الحضارات الانسانية وسلالة من أرقى الأعراق البشري، ويخطأ البعض حين يعتقد بأن دنقلة سميت على اسم ملك اسمه (ضنقل) ، وهذا غير صحيح فدنقلا كلمة نوبية تعني الطوب الأحمر، وقد تكون أيضا مركبة من كلمة هما دا(بمعنى دار) و (قل) بمعنى قلب أو مركز وبذلك يصبح معناها قلب الديار أو المركز(استطراد : من الكلمات النوبية التي قد لا ينتبه أكثر الناس اليها " النيل " هذا النهر الخالد، فالنيل اسم فاعل بالنوبية بمعنى (المشروب) وقد ذكرت ذلك في حلقة من حلقات البرنامج الذي أقدمه في اذاعة دنقلا بعنوان (خواطر في التراث النوبي)
في تاريخ المدن العربية والاسلامية نجد أن أشهر هذه المدن قامت على أيدي الرسل والأولياء الصالحين، هكذا نجد مكة المكرمة قامت على دعوة نبوية كريمة من سيدنا ابراهيم عليه السلام واحتضنت اسماعيل عليه السلام، والناصرة على دعوة المسيح عليه السلام، والمدينة المنورة على يد خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي غير اسمها من يثرب الى طيبة، وفاس على يد المولى ادريس حفيد فاطة الزهراء رضي الله عنها، وقامت دنقلا على يد الشريف عبد العال بن أحمد ابن ادريس الذي كان يشرف على بناء جامعها الكبير وتوفي قبل اكمال البناء فقدم ابنه الشريف محمد الشريف من الزينية واتم بناء الجامع الكبير وتزوج هناك وعاش في دنقلا وتوفي بها ودفن جوار قبر والده السيد عبد العال الادريسي داخل حرم الجامع الكبير، وبذلك يكون الادارسة من أوائل الأسر التي شكلت مجتمع دنقلا. غير أن الادارسة اتخذوا الدعوة الى الله مهنة لهم واستقروا في العديد من قري ومدن السودان مشاعل نور وينابيع معرفة، فقد كان السيد الحسن الادريسى ابن محمد الشريف عالما ومتفقها في الدين وكان من عاداته أن يقوم بسياحة دينية في شتى قرى الشمالية يملأ مركبه الشراعي بكافة ألوان الأغذية فيجوب قرى المنطقة، يمكث في كل منطقة ما شاء الله له، يذبح الذبائح ويقيم حلقات القران والعلم. لقد كان للادارسة دور عظيم في الاشراف على خلاوي القران ورعايتها وتشجيع مشايخ العلم ونشر الدعوة بين أهالى دنقلا وسنخصص حلقة كاملة عن الادارسة ان شاء الله.
كما استقر في مدينة دنقلا العديد من الأسر المصرية والعربية والسودانية الأخرى، تصاهرت مع بعضها البعض وشكلت ذلك النشيج الاجتماعي الذي طبع المدينة والمنطقة بطابعه الخاص ونكهته المميزة، وقد عملت هذه الأسر بالتجارة ومن ثم اصبحت دنقلا المركز الاقتصادي الأول في شمال السودان.
لقد توفرت لدنقلا معطيات عديدة جعلت من انسانها يتميز بتلك العبقرية والنبوغ، لكن رحابة فكر هذا الانسان واتساع مداركه ومعارفه ما كانا ليستقيمان وضيق المكان ومحدودية امكانيات المنطقة ، فارتحل الدناقلة وتسربوا الى شتى مناطق السودان المختلفة عابرين حدوده الى فضاء الله الأرحب منصهرين في المجتمعات الجديدة مساهمين في صناعة مجدها وحضارتها مع بقايا حنين وشجن لا يفارقان صاحبهما أبد الدهر ولا يجد طعما الذ من عيشه القديم وموطنه البعيد مهما كان الحال وقد عبر عن ذلك الفنان المصري ايمان البحر درويش نقلا عن ابيه الفنان العظيم سيد درويش من خلال أغنيته عن انسان دنقلا في القاهرة وحنينه لبلده في اغنيته الشهيرة (دنقلا- بلدنا) ثم ذلك الحنين الى دنقلا الأصل في رواية الكاتب النوبي ادريس على (دنقلا).
من اشهر القبائل التي استقرت في دنقلا نذكر الجعافرة، والجعافرة ينتسبون الى الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب وكان شقيق على ابن أبي طالب رضي الله عنهما وأسن منه بعشر سنوات ، وهاجر الهجرتين الى الحبشة والمدينة المنورة، وقد فتح خيبر فعانقه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا (ما أدري أأفرح بفتح خيبر، أم أفرح بقدوم جعفر) وكان جعفر يحب المساكين ويجلس اليهم فكناه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا المساكين وكثيرا ما كان يقول له "أشبهت خلقي(بفتح الخاء) وخلقي (بضم الخاء) " وقتل شهيدا في غزوة مؤته في السنة الثامنة للهجرة في مشهد بطولى ترويه كتب التاريخ حيث قطعت يمينه في المعركة فحمل الراية بشماله ثم قطعت شماله فحملها بعضديه حتى قتل وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأي جعفرا يطير بجناحين في الجنة مع الملائكة لذلك اسماه الناس بالطيار، وقد استشهد عن أربعين سنة وأعقب تسعة من الأولاد منهم ثلاثة لهم عقب هم جعفر الأصغر ومحمد و عبد الله وقد أنجب عبد الله ولدا يسمي على الزينبي نسبة الى والدته زينب بنت على بن أبي طالب من فاطمة الزهراء ويرجع الجعافرة الى على الزينبي هذا ، وهناك فرع من الجعافرة يرجعون الى الامام جعفر الصادق من نسل الحسين بن على كما ذكر القلقشندي والمقريزي وغيرهما من علماء الأنساب