منتديات معتصم أقداوي للثقافة والتراث النوبي
مرحبا بك في ‏منتديات معتصم أقداوي للثقافة والتراث النوبي
منتديات معتصم أقداوي للثقافة والتراث النوبي
مرحبا بك في ‏منتديات معتصم أقداوي للثقافة والتراث النوبي
منتديات معتصم أقداوي للثقافة والتراث النوبي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتديات معتصم أقداوي للثقافة والتراث النوبي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
معتصم محمد
عضو ماسي
عضو ماسي



عدد المساهمات : 297
تاريخ التسجيل : 02/12/2010

خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم Empty
مُساهمةموضوع: خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم   خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم Icon_minitimeالجمعة يناير 07, 2011 2:40 am

:
خليل فرح: رجل بقامة أمة


مقدمة
لم يُشتهر أديب وفنّان سوداني كما اشتُهر الخليل. ومع ذلك يكتنف الغموض الكثير من جوانب شخصيته. قد يرجع البعض ذلك إلى ضياع أغلب شعره بالعربية العامية، ثم جميع ما كتب من شعر بالنوبية، ما عدا مقطع واحد أو مقطعين. وهذا صحيح، إلاّ أنه ربما كان بعض الحقيقة. فخليل فرح كان رجلاً ذا شخصية عميقة وغامضة. ثم إن خطابه الأدبي، مع سهولة لغته الشعرية ومفرداته وجزالة تعابيره، لم يكن سهلاً ومباشراً. فقد كان خطابه يتحرّك في مستويين: عام وخاص. فإنتاجه الشعري دائماً ما يحمل معنيين، أحدهما عام يفهمه الجميع، وآخر خاص به شخصيّاً. كان خليل فرح يحرص كل الحرص على البعد الخاص في إنتاجه الفني، إذ من الواضح أنه لم يكن يعطي متلقّي فنّه أيَّ مؤشّرات لاستكناه البعد الخاص في خطابه، ناهيك عن سبر أغواره. وقد نجم عن كل هذا أن استقراء خطابه الأدبي انكفأ في أغلبه على المستوى العام، الأمر الذي أدى ـ فيما نظن ـ إلى رسم صورة غير كاملة عنه تطورت مع مرور الأيام إلى صورة نمطية. في هذا الجانب سنحاول أن نستقرئ البعد الخاص في خطابه الأدبي لنلج عالماً ربما لم يُتح لأحد من قبل. وسوف نتطرّق في هذا أولاً لمصادر لغته العامية؛ وثانياً أثر تجربة التّسفار بقوافل الجمال على حسّه الكوزمولوجي، وهو ما نسمّيه بالوعي الوجودي؛ ثالثاً، نتكلّم عن شعر الطبيعة عند الخليل؛ ورابعاً نختم بمكانة صاي في عالمه الشعري الخاص الذي أشرنا له.
ويمكن إرجاع هذا التراوح ما بين العام والخاص إلى طبيعة شخصيته والطريق الذي اختطّه لنفسه في سياق الثقافة الاجتماعية آنذاك. فصورة خليل فرح في الحياة العامة ـ مثلاً ـ تختلف كل الاختلاف عن صورة حياته الخاصة، أي داخل أسرته. كما تختلف شخصيته في الحياة العامة عن شخصيته في الحياة الخاصة داخل أسرته. ففي الحياة العامة كان معروفاً بالبشاشة واللطف والظرف ولين الجانب مع أصدقائه، فضلاً عن اشتهاره بالأدب والفن ـ وإن لم يغنِّ للعامة؛ أما في حياته الخاصة، فقد صموتاً قليل الكلام مختصره، لا يجرؤ أهل بيته على رفع الكلفة وتجاذب الحديث معه. كانت زوجته سلامة شلاّلية تحكي أخريات أيامها لمن يتناول معها هذا الموضوع، خاصةً من أفراد الأسرة، كيف أنها لم تعرف أن الخليل كان يغنّي إلاّ بعد موته. فقد كانت تظن أنه ـ بخلاف ما أُثر عنه من غناء بالنوبية بصاي في أول شبابه ـ قد ترك الغناء والمعازف. فهي لم تره يحمل عوداً أو طنبوراً، كما لم تسمعه يترنم بلحن لأي أغنية، نوبية كانت أم عربية. في منتصف السبعينات سألت أخاه الأصغر علي فرح كيف لم يستوثقوا منه عن ديوانه الشعري عندما كان يرقد بستشفى النهر في أيامه الأخيرة. فضحك وقال لي بأن الخليل كان رجلاً صعباً مرهوب الجانب، لم يكن أحد من أفراد أسرته يجرؤ على الدنو منه. وقد ذكر كيف أنهم جميعاً كانوا يجلسون بالطابق الأرضي بمستشفى النهر، بينما الخليل لوحده بغرفته بالطابق الأول. وبين فينةٍ وأخرى كان واحد منهم يتسلل خفيةً للإطمئنان عليه، فإذا به واقفٌ يذرع الغرفة جيئةً وذهاباً وهو ينظر ساهماً من النافذة إلى الأفق البعيد عبر النهر. وقد استمرّ على هذه الحال حتى أعياه الوقوف والمشي في الليلة الأخيرة التي صعدت فيها روحه إلى بارئها.
في عام 1986م توفّيت ابنته عائشة بالكلاكلة، فجاءت عمّتها فاطمة (بابّا ييّا) من قرية عمارة بالسّكّوت للعزاء، وهي الأخت الوحيدة لخليل. خلال أيام العزاء استرعى انتباهها أحد أحفادها من أبناء المرحومة عائشة خليل، ألا وهو أحمد محمد أحمد هاشم (المعروف بأحمد دودو). فقالت لمن حولها من الأسرة: "أرأيتم أحمد دودو هذا؟ من أراد منكم أن يرى الخليل رؤيا العين شكلاً وطبعاً، فلينظر إلي أحمد دودو". في ذلك الزمان قبل أن يدخل في زمرة المغتربين فتنتفخ أوداجه سمنةً، كان أحمد دودو طويل القامة، رفيعها، أجعد الشعر، أخضر العينين، قمحي اللون أفتحه، صارماً، مقلاًّ للكلام داخل البيت، بشوشاً ضاحكاً خارجه، يغادر البيت والناس على مائدة الطعام دون أن يأكل شيئاً، فيسرع الخطا عسى أن يلحق بآخر ما في المائدة في منزل أحد أعمامه أو أبناء أعمامه المجاورة. هذه هي صورة خليل فرح داخل الأسرة، وهي صورة غائبة تماماً في الأدبيات التي كُتبت عنه.
ولد خليل فرح بدبروسة شمال مدينة وادي حلفا عام 1892م حسبما ورد في ديوانه ]علي المك، 1977]، وعام 1894م حسبما هو متعارف عليه بين أفراد أسرته، وهذا ما أورده أيضاً بدري كاشف [2000م] وهو ما نأخذ به. أما في أمر ولادته بدبروسة، فهناك احتمالان، أولهما أن ذلك حدث عندما هاجرت أسرته من صاي نحو الشلال الأول بأسوان هرباً من طلائع جيش ود النجومي المتقدمة نحو مصر أوائل عام 1891م. فخليل فرح من وردياب صاي (صيصاب) الذين كان يقودهم عبد الكريم (أوشّي) خيري وردي من ساب. وقد وقف الرجل ضد الأنصار وهزمهم في عدة مواقع قبل أن يضيّقوا عليه الخناق، مما اضطرّه إلى الهرب لمصر حيث لم يعد منها أبداً. الاحتمال الثاني أن تكون ولادته قد حدثت أثناء التسفار الذي عُرفت به أسرته باعتبار أن التجارة كانت حرفتها. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر اضطلع بدري كاشف خيري بالتجارة ما بين الخرطوم (لاحقاً أمدرمان) والأبيّض، عن طريق دنقلا، فأسوان عن طريق وادي حلفا. في رأينا أن هناك عدة أسباب دفعت به إلى هذا نكتفي بذكر إثنين منها؛ أوّلهما العمل الدؤوب للمحافظة على تجارة وردياب صيصاب في تنافسهم الشديد مع الحجّياب على احتكارها. الثاني قلة الموارد بالمنطقة، خاصةً وأن بدري كاشف أنجب "واحداً وعشرين ابناً وبنتاً واحدة هي طاهرة، وكان أحفاده ستةً وخمسين حفيداً" منهم خليل نفسه ]بدري كاشف، 2000: 7]. ولنا أن نلاحظ أن الاحتمالين لا يتناقضان، فأغلب الظن أنهما معاً كانا السبب وراء ولادته بدبروسة، شمالي مدينة وادي حلفا وكان بها معسكر الإنكليز المناوئ للمهدية. بهذا تكون أصوله من السّكّوت، أما القول بأنه من المحس، فذلك لغلبة اسم "المحس" على اسم "السّكّوت" بأواسط السودان، كما ورد ذكره من قبل.
عرفت أسرة بدري كاشف خيري سكنى الخرطوم في العهد التركي قبيل المهدية، مع بعض أسر أخرى من صاي (لمزيد من التفاصيل حول هذا، راجع صاي والكلاكلة أعلاه)، ثم حُملت على الهجرة إلى أمدرمان مع باقي سكان الخرطوم بأوامر الخليفة عبدالله التعايشي، فبقيت بها إلى اليوم، عدا الخليل الذي استقرّ بالخرطوم حيث كان بها منزله إلى أن مات. وقد اكتسبت هذه الأسرة جرّاء التسفار والتنقّل العديد من العلائق والصلات الاجتماعية. من ذلك العلاقة الخاصة التي ربطتها بآل العمدة أحمد شريف بوادي حلفا، وهي علاقة حافظ عليها الخليل نفسه حيث كان ينزل على هذه الأسرة في رحلاته من وإلى مصر. ثم الصلات الأسرية القوية بالعديد من الأسر بدنقلا، الأمر الذي مهّد لمصاهرات عدة نجم عنها فرع البدرياب بجزيرة مقاصر، فضلاً عن أصهار الأسرة من آل بركية بحفير مشّو ممن هاجر أصلاً من عبري إلى دنقلا ربما من أثر ذلك. فأم خليل فرح هي زهرة الشيخ من آل بركية بتبج، جنوبي عبري. تنقّل خليل فرح مع قوافل الأسرة التجارية عبر الصحارى والقفار في سني صباه وشبابه الأولى، حيث تركت هذه التجربة أثراً كبيراً على شاعريته وعمقها، كما لعبت دوراً أساسياً ـ فيما نرى ـ في تشكيل لغته العربية العامية. وسيكون أثر هذه التجربة في تشكيل لغته أحد الأبعاد التي سنعمل على إجلائها، وهو ما اعتبره الكثيرون من نقاده لغزا محيّراً. كما سيكون العمق الذي خلقته تجربة السفر تلك والسرى ليلاً في الصحراء أحد الأبعاد التي سنتلمّسها في شعره، وسنطلق عليه العمق الوجودي في شعر الخليل. وكل هذا مما لم يقف عليه أحد من قبل.
مع تسفار الخليل وتنقّله مع أهله في رحلات صيفهم وشتائهم التجارية، كانت صاي (صيصاب) هي المآبة التي يتفيّأ ظلالها ويلقي عندها عصا ترحاله. ففيها بدأ رحلة العلم في خلوة الشيخ أحمد هاشم (بابا شيخ أحمد)، وفيها تفتّحت عيناه على طبيعة ساحرة، يتعانق فيها النيل (بزرقته) مع الغابة والصحراء (في اخضرار الشطئان في الأولى ومحاصرة كثبان الرمال لها في الثانية). وهذه لوحة طبيعية لا يمكن لأحد أن يتصوّرها ما لم ير صاي. وقد صدق بدري كاشف في قوله: "نشأ خليل فرح في جزيرة صاي التي تحيط بها مياه النيل من جميع الجهات المختلطة بأنين السواقي وأصوات العصافير المغردة وحفيف أغصان النخيل الباسقة والشاهقة التي عاشت في وجدانه وتفاعلت مع أحاسيسه" ]بدري كاشف، 2000: 7]. وسيكون من أثر كل ذلك أن تصطبغ رؤيته الجمالية بنزعة انطباعية تصويرية تتجلّى بوضوح في شعر الطبيعة عنده. في هذا الصدد سنتحرّى موضوعين مهمّين، أولهما شعر الطبيعة عنده، وثانيهما مكانة صاي في شعره. ثم سنختم ذلك بالحديث عن النوبي الضائع في شخصية خليل فرح، ببيّنة ضياع شعره باللغة النوبية، وعلاقة ذلك بميكانيزم الاستعراب كنموذج مطروح للحداثة أمامنا ـ نحن السودانيين من غير العرب ـ ، وتحدّي أن نكون أو لا نكون.
[size=25]خليل فرح وشعر البداوة


أثارت إجادة الخليل للغة العربية العامية إعجاب الكثيرين، كما دفعت الكثيرين منهم للتساؤل عن الطريقة التي تعلم بها الخليل اللغة العربية، ذلك لأنه عندما قدم إلى أمدرمان لم يكن يجيدها. فمثلاً قال عن ذلك أبو قرون عبدالله أبو قرون [في بدري كاشف، 2000: ص 5]: "... وتجلت عبقرية الرّطّاني فقال شعراً فصيحاً". كما تعرّض الهادي الصديق في نقوشه على قبر الخليل ]1974] لعجمة لسان الخليل، فقال: "كان ذلك في جزيرة صاي أرض المعابد والمدافن ...، هناك يفتح التاريخ كنزاً جديداً ويرسل من بلاد طيرها أعجمي لساناً محسياً فصيحاً وشاعراً وفناناً يزن اللحظة من التاريخ بفنه ....". إن الكيفية التي أجاد بها الخليل اللغة العربية يمكن أن نتلمّسها في ذات الطريقة التي درج بها أبناء النوبة وغيرهم من أفارقة السودان ممن يولدون على غير العربية على تعلّمها. فمن المعروف أن العربية عند أغلب هؤلاء تمرّ بفترة كمون في الذهن والعقل والقلب، دون أن يبين عنها اللسان. وهكذا يمرّ بهؤلاء زمنٌ في باكر شبابهم يغالبون فيه عقدةً في لسانهم، ولا ينطقون بالعربية (عامّيها وفصيحها) إلاّ معاظلةً وفي تكلّفٍ شديد. ولكن في مرحلة معينة من شبابهم، تُحلُّ عقدة اللسان عندهم، فإذا بالعربية تنساب عندهم في كل مستوياتها مع لكنةٍ لا تخفى، بها ينماز أهل الشمال النوبي من أهل الجنوب النيلي، من أهل الغرب، وأهل الشرق وجبال النوبة والأنقسنا ، دواليك. إذن فهذا ما كان من تجربة الخليل مع اللغة العربية غالباً، وليس هناك ما يدعونا لنفترض غير ذلك.
بيد أن هذا لا يجيب عن التساؤل الأساسي، ألا وهو إجادة الخليل للغة العربية العامية كما لو كان قد وُلد وشبّ عليها. فإجادة الخليل للعامية العربية أثارت إعجاب معاصريه من شعراء ذلك الزمان، إذ بزّهم فيها، وهو الذي لم يكن يتكلمها عندما قدم إلى أمدرمان بعيد منتصف العقد الأول من القرن العشرين. إضافةً إلى ذلك فقد كانت عاميةً بدويةً وليست حضريةً. فالخليل جاء إلى العاصمة وعمره حوالي السادسة عشرة، فالتحق بكلية غوردون حوالي عام 1908م وتخرّج عام 1912م، وعمره حينها ثمانية عشر عاماً. وقبيل تخرّجه بقليل جرت المبارزة الشعرية (مجادعة) التي قادها الشاعر يوسف حسب الله (سلطان العاشقين) ومحمد عثمان بدري امتحاناً لشاعريته، وانتهت بالاعتراف به كشاعر مجيد ومتمكن من لغته ومتأدّب بأدب الشعراء المحبين، المُعفّين، العذريين. من المؤكّد أن الخليل لم يشرع في تعلّم العربية العامية بعد وصوله، وإلاّ لما تمكّن من إثبات تفوّقه فيها خلال مدّة لا تتجاوز السبعة أعوام. فاللغة العربية العامية التى أشعر بها الخليل مما لا يمكن أن تتأتّى إلاّ لمن نشأ عليها. إذن من المرجّح أن الخليل كان قد تعلّم تلك اللغة في صغره، فكمُنت في ذاته كمون النار في الحجر، حتّى إذا ما امتدت به السنون في العاصمة حيث الحديث كله بالعربية، انبثقت تلك اللغة من مكامنها جزلةً، فخمةً فجرت على لسان شاعرٍ فحل. فكيف وأين ومتى تعلّم الخليل تلك العامية السودان البدوية مجيداً ومتقناً لها؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أن نرجع إلى طفولة خليل فرح. بعد أن وُلد في حلفا، عاش الخليل طفولته وصباه في صاي حتّى تخرّج في خلوة بابا شيخ أحمد حيث كانت النوبية هي لغة المحكّ في المنزل والقرية. بعد ذلك درس الخليل في دنقلا متنقلاً باستمرار مع والده وأعمامه في رحلاتهم التجارية ما بين أسوان عبر حلفا وصاي، إلى دنقلا، فأمدرمان وبالعكس. هنا بدأ الخليل في تعلّم العربية الفصحى، وذلك عبر المناهج المدرسية كما هو العهد بكل أفارقة السودان. ولكن في تلك الأسفار بدأ الخليل في تعلّم لغةٍ أخرى سيكون لها أعظم الأثر في تاريخه الشخصي وفي تاريخ أمته، ألا وهي العامية العربية السودانية في مستوياتها البدوية والحضرية معاً. فمن المعروف أن تنقله مع والده وأعمامه كان حينها يتمّ بقوافل الجمال، بكلّ ما تشمل من فريق من العرب البدو، منهم من يعمل كدليل، ومنهم من يعمل كمشرف على الجمال، أكلها وشرابها. كانت هذه القوافل تستريح نهاراً في القيلولة، وتسافر فجراً وعصراً ثمّ آناء الليل. وكان الأعراب المرافقون لها يحدون إبلهم حثّاً لها لتغزّ السير. أما عندما يستريحون ليلاً، فقد كان ذلك أشبه ما يكون بمنتدىً أدبي، إذ كان أولئك البدو يتحلّقون حول النار يشربون الشاي وهم يتطارحون شعراً وإنشاداً. وكانت مطارحاتهم تحفل بالملح والطرائف، هجاءً ومدحاً، وتغزّلاً. من جانبهم كان النوبيون من أهل الخليل يتطارحون بلغتهم إنشاداً لما يعرف بغناء "الكلّكيّة"، وهو فنٌّ أُثر عن جلسات الخمر، ثمّ أصبحت له إستقلاليته ]راجع في ذلك: سيد مُسُل، 1974]. وقد أُثر عن الخليل إتقانه لهذا الجنس من الغناء بالنوبية. في ظنّنا أن الخليل تعلّم العربية العامية التي أنشد بها شعره وبزّ بها أقرانه، هناك في طفولته وصباه الباكر وهو يتنقّل مع والده وأعمامه في رحلاتهم التجارية.
مما يدعم قولنا هذا، العديد من التجارب المماثلة لنوبيين تعلّموا العربية العامية بنفس الطريقة. من هؤلاء امرأة من صاي/عبري من آل هاشم اسمها زينب أحمد شريف (حبوبة نونو) توفّيت عن عمر ناهز المائة، وكانت تتكلم العربية بطلاقة وتروي شعراً عربياً عامياً حفظته عن ظهر قلبٍ من أعرابٍ أقحاح في طفولتها. فقد درج آل هاشم بصاي وآل شريف بعبرين كونج على قضاء شهور الصيف بأطيان لهم تقع غرب صاي بالمكان المسمّى ساقية العبد (بالنوبية كِسّي، أي الكنيسة)، وذلك في موسم حصاد التمر. هناك كان ينضمّ لهم العديد من أعراب البادية العابرين والمقيمين موسمياً. في الليالي كان هؤلاء الأعراب يتحلّقون حول النار منشدين ومتسامرين. وقد كبرت حبوبة نونو وهي تحفظ الكثير من أشعارهم التي ظلت ترويها حتى آخر أيامها، وكانت امرأة حافظة للتراث المحلي والتاريخ الشفاهي ]راجع تسجيلات الهادي حسن أحمد هاشم التي سجّلها لحبوبة نون أوائل سبعينات القرن العشرين].
من ذلك ما حكته عن أعرابي أحبّ بنتاً من قرية أبْراقة، جنوبي صاي من الضفّة الغربية، فطرده أهلها من القرية وحرّموا عليه دخولها. كان ذلك في الفترة ما بين عامي 1907م وعام 1909م، ذلك لأن حبوبة نونو كان عمرها حينها حوالي 12 عاماً. وهم (أي آل هاشم وآل شريف) بساقية العبد، جاء ذلك الأعرابي العاشق بصحبة رجل الشرطة الوحيد بالمنطقة آنذاك، وكان من أغرابها واسمه "محجوب". قالت حبوبة نونو إنها كانت تصلّي بأعلى "القيف"، فجاء الأعرابي العاشق ومعه محجوب العسكري، فنزل الأخير كيما يتوضّأ في النيل، بينما جلس بجانبه العاشق، والذي شرع لتوّه في إنشاد قصيدة طويلة ظلت حبوبة نونو تنشدها كلها حتى آخر حياتها، ونورد منها البيت التالي:

تَحْفَى من الرّقا وتورد من الرقراقة
يا محجوب حليل السّاكنة بطن أبْراقة

ولنا أن نتصوّر أثر تلك التجربة المتقطّعة في طفلة عمرها لم يكن يتجاوز الثانية عشرة بأيّ حال من الأحوال، فقد كانت حبوبة نونو فصيحة في العربية العامية، مع أنها لم تغادر منطقة عبري طيلة حياتها، كما لم تتكلم بالعربية التي تعلّمتها فكمُنت في لاوعيها، إلاّ بعد أن كبُرت، فإذا بتلك اللغة تنبثق من تلافيف لاشعورها. لقد حفظت شعر أولئك البدو الذين اختفوا في مسارب التاريخ ليس بجزالة ألفاظهم فحسب، بل وبأساليبهم الأدائية أيضاً. وما ذلك إلاّ لشاعرية أصيلة عند حبوبتنا نونو، عليها رحمة الله، إذ قالت الشعر بالنوبية وبالعربية، فضلاً عن كونها أول من قام بترجمة أغنية (بلاّل يا بلاّل يالعجب بلاّل) من العربية العامية إلى النوبية.
ذلك ترجيحاً ما كان من أمر الخليل بشأن اللغة العامية التي كتب بها شعره.

العمق الوجودي في شعر الخليل: أثر الليل والأفلاك على شاعريته

نعني بالعمق الوجودي إحساس المرء بذاته من خلال وعيه بالوجود الكوزمولوجي في إطلاقه، أي إحساسك بأنك ذرّة أو نقطة في وجود لامتناهي؛ إحساسك بأنك مجرّد ثانية عابرة في زمن سرمدي. مثل هذه الأحاسيس تثيرها عامةً الطبيعة العارية مثل الصحراء والجبال والغابات، لكن أكثر ما يثيرها الليل بنجومه وشهبه ونيازكه، ذلك لأنه يكشف عن اللامتناهي. ويكون تأثير هذه التجربة أقوى إذا ما عايشها المرء في طفولته وباكر حياته، وهو ما عليه حالة خليل فرح. ولعلّنا لا نجانب الحقيقة إذا ما قلنا بأن شخصية الخليل قد تمّت صياغتها في طفولته الباكرة. فقد كان في طفولته ـ كما ذكرنا أعلاه ـ يتنقّل مع أبيه وأعمامه مسافراً على قوافل الجمال ومعايشاً للسرى. لهذا كثيراً ما يتردّد في شعره ذكر الليل والركاب والرحال، ثم البدر والنجوم والكواكب في إحساس عالي بالوجود أشبه ما يكون بوجودية الأطلال في الشعر العربي الجاهلي.
من ذلك ما قاله في أغنية "عزّة في هواك":

عزّة جسمي صار زي الخُلال وحظّي في الرّكاب صابُو الكلال
وقلبي لسَّ ما عِرِف المَلال أظِنُّو ود قبيل وكريم الخصال

ويشغل السرى وركوب المطايا حيّزاً كبيراً من شعر الخليل، لا في صوره الواقعية، بل في رمزية وجودية عميقة. من ذلك ما قاله في نفس الأغنية:

عزّة ما بنوم الليل محال بحسّب النجوم فوق الرّحال
وخلقة الزّاد كِمِل واْنا حالي حال متين أعود واْشوف ظبيّاتنا الكُحال

مثل هذه الإشارات والإيحاءات الوجودية قلّما تخلو منها قصيدة من قصائده. وهذا مما يؤكّد عمق تجربته الوجدانية في طفولته عندما كان يراقب أسمار البدو المرافقين لرِكابهم في أعماق الليالي، ويحفظ ما كانوا يردّدونه من شعر بلغةٍ رصينة ما كان له أن يصادفها وهو النوبي "الأعجمي" ـ مثلما يحلو لبعض النقاد أن يشير ـ إلاّ بمعايشة حقيقية لحياة البدو الأعراب.
يقول الخليل:

وقت الليل بَرَدْ طَلَع البدُرْ بكواكبُو
ولِحْقتْ الإبِل وادي الأراك برواكبُو
جادت واْسبلت عين المُحِب بسواكبُو
واحتلّ الفؤاد مَلِك الغرام بمواكبُو

ثم فلنتأمّل قوله:

في سموم الصيف لاح لُو بارق لم يزل يرتاد المشارق
كان مع الاحباب نجمُو شارق ما لُو والافلاك في الظلام

فكأنه يتحدّث هنا عن إحدى تجاربه في سفر القوافل وركوب المطايا نهاراً حيث السموم وحرّ النهار، ثم يأتي الليل والنجوم، الأفلاك والظلام.
خرج الخليل من هذه التجربة برصانة اللغة، مع حسّ وجودي عالي. وسيكون لهذا العامل أكبر الأثر في صياغة سيكولوجيته، وسعيه الحثيث كيلا يكون مجرّد شهابٍ شقّ عنان السماء ثمّ اختفى. وهذا الحسّ الوجودي نفسه الذي سيجعله يرثي نفسه ويبكي حياته القصيرة بعمر السنوات، الكبيرة بعمق التجربة. كما ستظلل حياته رنّة حزن عميق، وهو حزن وجودي ناجم عن التسليم بأن للحياة نهاية؛ هذا التناقض الوجودي بين الموت والحياة يتجلّى عبر خطاب يبدو في ظاهره كأنه عدمي، ولا شيئ أبعد من ذلك.
أنظر إلى قوله:

شاعرٌ أنتَ غيرَ أنّ الليالي خالياتٌ لم تأتنا بجديدِ
فإذا ذكرْتَ ماضيكَ فاذكُرْنا كلانا ذو طارفٍ وتليدِ
رُبَّ ماضٍ من الهوى بعَثتْهُ ذكرياتُ الهديل والتغريدِ
[size=25]الطبيعة في شعر الخليل


عاش الخليل طفولته في جزيرة صاي، وهي جزيرة فريدة في أمرها، فقد جمعت بين النيل والخضرة من جانب، ثمّ الجبل والصحراء من الجانب الآخر. فهي كجزيرة يحيط بها الماء من كل جانب، كما يتوسّطها جبل عدو الشهير؛ وتحيط بها الخضرة في أطرافها وضفافها، بينما منطقتها الوسطى حول الجبل قاحلة يغطيها الحصى. إلاّ أن أكثر ما يميّز صاي، مما كان له أكبر الأثر في شعر الخليل، شيئان هما النيل الذي يحيط بها، ثم كثبان الرمال التي ترتفع كالجبال في غربها والتي تراكمت عبر السنين. هذه هي حدود الصحراء الكبرى والتي يحدّها النيل بمحازاة جزيرة صاي من غربها. إن إحاطة النيل وخضرة صاي وارتباط ذلك مع كثبان الرمال سيتلازمان في شعر الخليل ـ كما سيرد أدناه. لكن ما يجدر ذكره في هذا الشأن، أن صاي بطبيعتها المتناقضة قد جمعت أهم العوامل التي شكّلت شخصية الخليل، فقد تصالح النيل والخضرة مع الصحراء والجبل والنجوم والكواكب. فيما بعد سيتجلّى هذا التصالح والانسجام في العديد من الأخيلة الشعرية، وذلك عندما يجمع بين أشياء تبدو وكأنها نقائض، موظّفاً أدوات البلاغة العربية من جناس وطباق ومجاز إلخ.
أُنظر إلى هذه المصالحة في قوله:

أنت كالبدر في عُلاك أنت كالروض في خلاك

ويبلغ شعر الطبيعة قمته عند الخليل في أغنية "في الضواحي وطرف المداين" وفيها يطلب الشاعر من نداماه في إبداعية نادرة وذلك بسبب أسلوبها المباشر أن يقوموا بالرحلة التالية:

في الضواحي وطرف المداين يللاّ ننظر شفق الصباح

ثمّ يهيب بهم أن يتملّوا في جمال الطبيعة، منبّهاً إياهم لما في الصورة من مهابة وروعة:

شوف محاسن حسن الطبيعة تلقى هيبة وروعة وجمال

في هذه الأغنية الرائعة كلماتٍ ولحناً يكشف الخليل عن تصالح وجودي بين عناصر الطبيعة المتناقضة، وهو تصالح في ظننا لا يقدر عليه إلاّ مبدع فنان؛ فقد تصالح الليل مع الصباح، كما تصالح البدر مع النجوم، كما تصالحت المدينة مع الريف، ثم تصالحت رمال الصحراء مع خضرة الوادي:

شوف صباح الوادي وجمالُو شوف خضارُو وصيدُو ورمالُو
شوف نسيم الليل صاحي مالُو شوف يمينُو وعاين شمالُو
شوف فريع الشّاو مين أمالُو القمر خجلان من كمالُو
والصباح لاح بَهَل الوشاح


يا الطبيعة الواديك ساكن ما في مثلك قط في الأماكن
يا جمال النّال في ثراكن يا حلاة الْبِرْعَنْ أراكِن
في قَفاهِن تور قَرْنُو ماكن لا غِشَنْ لا شافِنْ مساكن
في الخُزام والشّيح والبَراح

إن هذا التصالح يكشف عن تصالح آخر يتعلّق بشخصية الخليل، فقد آلف بين ذات المبدع المضطربة التي لا تستقرّ على حال في سعيها لاستكناه الوجود وإعادة إنتاجه عملاً إبداعياً به يحقق الإنسان ربوبيته، وبين تسليم صوفيٍّ بمقتضى الحال جعل الخليل رجلاً ملتزماً بمعايير الوقت الاجتماعية من قيم وأخلاق، فخرج من كل ذلك بذاتٍ مطمئنّة، ونفسٍ مستقرّة، عاشت ثمانيةً وثلاثين عاماً، كما لو كان كل يومٍ فيها يساوي خمسين ألف سنةٍ، ثم رحلت إلى ربّها راضيةً مرضية.
صاي في شعر الخليل

على شهرته، تحيط بخليل فرح العديد من المعلومات غير التاريخية التي ينحو الكثير من نقاد شعره وأدبه إلى ترويجها في محاولاتهم المستمرّة والمشروعة لإعادة إنتاج الخليل في صورة تلائم أوضاع حالية بعينها، ربما لا علاقة لها بما عاشه خليل فرح. وليس هذا خطأً في حدّ ذاته، فتلك سنة الناس في حال تعاطيهم للفن في أيّ جنسٍ من أجناسه، خاصّةً تلك التي تميل إليها أفئدتهم. من ذلك مثلاً ما قاله صديقنا أبو قرون عبدالله أبو قرون 00dff]بدري كاشف، 2000: ص 5]: "سكن الخليل بأمدرمان/ بيت المال وصار قلبها قلبه يحسّ ألمها ويرجو أملها وصار لسانها يتحدث بها وعنها فكان قلباً جسوراً ولساناً صادقاً وتجلت عبقرية الرّطّاني فقال شعراً فصيحاً". فهذا قول غير صحيح، ذلك لأن الخليل، بخلاف السنة الأولى التي قضاها بمنزل ابن عمّه كاشف خيري بأمدرمان عندما قدم للدراسة بكلية غوردون، عاش حياته إلى أن وافته المنيّة بالخرطوم. أنظر إلى قول جهبوذ أغنية الحقيبة الفريق إبراهيم أحمد عبد الكريم (عليه رحمة الله): "كان فن الغناء في تلك الأيام ... يتزعّمه الفنان محمد أحمد سرور وفرقته الفنية (الشيّالين) وقد ابتُكر هذا اللون من الغناء بأمدرمان. ومن روّاد هذه المدرسة الأمين برهان وعمر البنّا وعبدالله الماحي وكرومة وعلي الشايقي وغيرهم. أما مدرسة خليل فرح الخرطومية فقد استغنت عن الشيّالين وحلّت مكانهم الآلة الموسيقية ..." [بدري كاشف، 2000: 24]. وقد ذكر لي فرح خليل فرح (عليه رحمة الله) بأن منزلهم كان بالخرطوم في مواجهة نادي العمال في المنطقة التي بها الآن فندقا شهرزاد والخرطوم بلازا. كما كان لا يزال يتذكّر رجل الأعمال والبر والإحسان البغدادي بذقنه البيضاء، خاصةً عندما كان يجلس أمام منزله علي كرسي القماش. وقد أشرنا إلى هذا الحي النوبي الذي كان لأهل صاي الفضل في تأسيسه منتصف القرن التاسع عشر عندما استقرّ فيه يعقوب بن رمضان بن يعقوب، شقيق هاشم، مؤسس أسرة آل هاشم بسوكري، صاي. وذكر لي حسن أحمد هاشم أنه في الفترة ما بين 1926م ـ 1929م عندما كان وأخوه محمود يدرسان بمدرسة الخرطوم الأولية (التي درّس فيها رفاعة رافع الطهطاوي منتصف القرن التاسع عشر، وكانت تشغل مبنى برج البركة حالياً) كان يعيش مع الخليل في منزله بجوار نادي العمال حالياً، بينما كان محمود أخوه يعيش مع آل يعقوب بجوار صينية القندول حالياً. ومع كل هذا نجد أناساً كثيرين يروّجون لسكنى الخليل بأمدرمان؛ من هؤلاء مثلاً بدري كاشف نفسه عندما حكي عن عمّه الفنان خليل فرح فيقول: "أحبّ خليل فرح وطنه أمدرمان حباً شديداً وأدخلها في كثير من أشعاره ..." ]بدري كاشف، 2000: 8]. ومثل هذا القول لا يحق لأحد أن يرفضه إذا ما قيل باعتبار رمزية أمدرمان، ولكن قد يرفضه الكثيرون إذا ما طُرح على أنه وقائعي وتاريخي.
كذلك هناك معلومات نمطية شاعت عن الخليل جرّاء القراءة الأحادية لشعر يستند في إحدى قوئم إبداعه على الرمزية والإشارة مما يستوجب التأويل وقراء ما بين السطور، خاصّةً وأنه كما أشرنا إلى ذلك يجري في مستويين خاص وعام. من ذلك مثلاً اعتقاد الكثيرين أن الخليل لم يكن ذا ارتباط وثيق بقريته صاي. ونستشهد في هذا أيضاً بما قاله أبو قرون [المرجع السابق]: "... فتحية لك يا أيها المحسي ابن صاي الذي صرت الابن البار لامدرمان وقد جاء اسم موطنك الصغير في شعرك مرتين أو ثلاث مرات، أما أمدرمان فكانت شعرك وروح شعرك ...". بخصوص قوله عن الخليل "... يا أيها المحسي ..." كنّا تعرّضنا لمسألة انتساب السّكّوت للمحس حال هجرتهم إلى أواسط السودان في الفصل الثالث، فليُراجع في محلّه. لكن ما يهمّنا هنا مسألة ارتباط الخليل بالمنطقة النوبية عامةً وبصاي خاصةً، وهو ما سنتعرّض له أدناه. أما قوله :" ... أما أمدرمان فكانت شعرك وروح شعرك ..."، فالردّ عليه أن أمدرمان لم تكن غير رمزٍ للوطن بوصفها العاصمة الوطنية آنذاك. وهذا لا يغيّب أمدرمان المدينة، بل يدعم أهليتها. وبذات هذا المدخل الرمزي سنتناول مكانة صاي في شعر الخليل. وسيستند منهجنا في هذا على بينات من شعره وإفادات تحصّلنا عليها بخصوص بعض الدلالات والاستخدامات اللغوية في شعره، بها نستخلص قراءة جديدة لبعض مناحي شعره فيما يخص صاي، ومن ثمّ سنعمم هذه القراءة على مواضع بعينها نرى أنها تقبل تأويلاتنا.
بدءً تجدر الإشارة إلى أن الخليل كان يستصحب في وعيه تاريخ أمته من عصور ما قبل التاريخ إلى كوش مروراً بنبتة ومروي، فالممالك النوبية المسيحية، فالفونج إلى لحظته الحاضرة. وهذا تاريخ لم تتضح معالمه بالصورة التي نعهدها الآن إلاّ بعد وفاة الخليل بعقود.
في هذا فلنتأمّل قوله:

فنحن عصابةٌ للمجد نبني وما لقديمنا أبداً قديمُ
وكم أثرٍ لنا عفت الليالي وشابت وهو مجلُوٌّ وسيمُ
فسلْ سوبا وسل سنّارَ عنّا ووادي النخل تُنْبِئُك الرسومُ
فلو أن الخلودَ يُنال قسْراً لدام لنا ولكن لا يدومُ

أما قوله (ووادي النخل تُنْبِئُك الرسومُ) فإشارة واضحة للمنطقة الشمالية عامةً والنوبية بوجه خاص، وهذا من قبيل المشابهة بين وادي الملوك بالكرنك بالنوبة العليا بمصر حيث مدفن أغلب فراعنة مصر والنوبة. وفي الواقع مثل هذه الإشارات تكشف عن أحد أهمّ الأساليب الرمزية عند الخليل، خاصةً عندما يتعلّق الأمر بالمنطقة النوبية. فهو هنا دائماً ميّال لتوظيف الإشارة والرمز، الأمر الذي يستدعي إعمالاً عميقاً للتأويل في سبيل استكناه الدلالات التي تتداعي ويقبلها الخطاب الإبداعي للشاعر في البعد الخاص والشخصي الذي نوّهنا له.
شيئ آخر نشير إليه بخصوص شخصية الخليل ألا وهو تعلّقه بأهله وعشيرته، خاصةً إخوته. ربما يرى البعض أن هذا مما لا يحتاج إلى تذكير، فغالبية الناس متعلقون بذوي قرباهم. هذا صحيح، إلاّ أن ما يميّز الخليل هو أنه لم يكن يذكر أهله إلاّ في سياق تاريخي/إجتماعي حافل بالمجد والسؤدد والفخار. من ذلك مثلاً القصيدة التي قالها في مدح أخيه الأكبر "بدري" وكان أثيراً لديه لدرجة أن الخليل تزوّج بأرملته دون أن يكون بدري قد أنجب منها. فقد جرت العادة أن يتزوّج الأخ بأرملة شقيقه رعايةً لأيتامه وذلك حتّى لا يُساموا سوء العذاب على يد شخص غريب قد يتزوّج بأمهم. ولكن الخليل، ربما بدافع التأسّي والسير على درب عزيزه الفقيد شقيقه بدري، يختار أن يتزوّج بأرملته، فينجب منها ابنه فرح وابنته عائشة. بهذا كأنما بدري هو الذي أنجب. يقول في مدح أخيه بدر:

بقيت للخاصمك يا بدري سُمّاً ناقـع
وخلّيتُـهْم يكتكتـوا كالجداد الفاقـع
خريف الرّازّة شايلة مطر تقيل وصواقع
البتّـقِدُّو أبداً ما بتَسِـدُّ مراقـع خليل فرح رجل بقامه امة..
[/size]كُلُّ شيئٍ إلى البلى غيرُ ذكرى صورةٍ من صبابةٍ وعهودِ [/size]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
معتصم محمد
عضو ماسي
عضو ماسي



عدد المساهمات : 297
تاريخ التسجيل : 02/12/2010

خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم Empty
مُساهمةموضوع: رد: خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم   خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم Icon_minitimeالجمعة يناير 07, 2011 3:04 am

جانباً عن فحولة اللغة وفخامة الأسلوب،

لا نرى في هذا المدح ما يمكن أن يميّز الخليل فيما نحن بشأنه. ولكنه بعد هذا يشرع في تدبيج المديح لا لبدري بل لأهله وعشيرته، فيقول:

أبواتكم ملوك من أرقو لي سكّوت
وكان دمّ الرّجال ليهم شراب ومقوت
غرب صيصاب جيوشُهم زلّت الجبروت
كتلوا الجرْدة وفيها سوّوا الفوت

ويشير الخليل هنا إلى واقعة بعينها، جرت غرب جزيرة صاي من جانب صيصاب، وأبلى فيها أخوه بدري أحسن البلاء. وكنا قد رجّحنا أن تكون تلك الواقعة مما جرى إبّان حملة ود النجومي والمصادمات التي جرت بين جيش الوردياب بقيادة عبد الكريم (أوشّي) خيري وردي وعبد التام محمد علي وردي. وهذه من المرّات ـ على قلّتها ـ التي يأتي فيها ذكر لصيصاب أو لصاي في شعر الخليل بطريقة مباشرة. وقد صدق في ذلك أبو قرون عندما قال بأن الخليل لم يذكر اسم قريته إلاّ مرات قلائل، مثل صدقه في بعض ما قال [بدري كاشف، 2000: 28] "ولد الخليل في منطقة المحس شمال السودان ولعلّ أول ما انسلّ إلى أذنيه المرهفتين وتغلغل إلى دواخله كان صوت آذان الفجر من صوت نوبي ندي، وأنين السواقي ينساب حنيناً وشدواً، ولعلّها أصوات بواخر كتشنر. كل هذه الأصوات تسللت إلى ذلك الوجدان فغمرته إيماناً ورقّةً ووطنيةً وهكذا نشأ الصبي الفذ". دون التعرّض لما يحفل به هذا القول من أغاليط مثل مولد الخليل بمنطقة المحس، والتقعّر الوارد في مسألة أصوات الآذان، إذ إن الصورة بها إسقاط لما عليه واقع الحال الآن من تجاوب أصوات الآذان من كل جانب لكثرة المساجد في زمننا الحاضر، وتجاوزاً لمسألة أبواق بواخر كتشنر بكل زعيقها وإزعاجها ناهيك عما صاحبها من خوف ووجل والتي ربما أوردها صديقنا ذو القرون عن نزعةٍ عسكريةٍ جامحة ـ بعيداً عن كل هذا يبقى اتّفاقنا معه في قوة أثر نشأته الأولى بصاي.
ولكن فلنتمعّن في قول أحد أبناء صاي ممن كان زين شبابها في زمنه ولا يزال زين رجالها على مرّ الأيام، ألا وهو إبراهيم محمد إبراهيم بلال (حفيد بلال صاحب الجنّة الأولى وابن بلال صاحب الجنّة الثانية كما سيرد أدناه): "... ببساطة فإن للإنتماء آفاقاً في التركيبة النفسية والقيم التي تحكم سلوك الفرد. انتماء الخليل وارتباطه بجذوره النوبية واضح في جملة القيم التي جاء بها كما هي بعض إشاراته الواردة في شعره. ... وأزعم أن خليل فرح تتضح سيرته بهذا النمط من القيم وقد عبّر عنها في مواقفه ... صحيح أن الخليل لم يتحصّل الباحثون له عن شعر مسجّل باللغة النوبية ولكن المقام هنا هو أثر المنبت النوبي للخليل وتجلياته في شعره" ]بدري كاشف، 2000: 26]. وهذا هو ما نحن بصدده، ألا وهو إثبات أن قريته (صاي أو صيصاب معاً) هي منبع الصور الجمالية ـ الوجدانية منها والمتعلّقة بالطبيعة؛ وهو ما نؤسس له ببيّنة الارتباط الروحي والوجداني لدى الخليل بأهله وعشيرته، وهو ارتباط لا يقاربه الخليل إلاّ في السياق التاريخي/الاجتماعي للمجموعة النوبية ككل. ففي نفس القصيدة يواصل مفتخراً بأهله:

إنِحْنا المحس يَحْسِن وِليدنا حتوفُو
متّحمل جبال الواقعة ساندة كتوفُو
نارُو بِتوقد الغيرة وتناجي ضيوفُو
فرّة سِنُّو في دارُو تحاكي سيوفُو

مما يؤكّد هذا أن الخليل لا يتخلّى عن السياق التاريخي/الاجتماعي حتّى عندما يتناول أحداً من المنطقة النوبية ممن يدخلون في زمرة الأهل بالفهم العام. من ذلك مثلاً قصيدته التي رثى فيها صديقاً له من حلفا دغيم كان يدعى "سرّي" وقد مات شابّاً:

آهِ .. وا حســرتا يـا ســرّي
يا اْخــوي ورفيــقي وســرّي
أحداثِك جِسامْ يا دنيـا ما بِتْسُـرّي
ونادر نلقى فيك اْلْعَن همومنا بِسَرّي

ثمّ يتعرّض الخليل لأثر وعمق الفقد الذي رُزئ به بموت صديقه، ولكن في السياق التاريخي/الاجتماعي النوبي:

صيصاب ودغيم ودار المحس لي قرّي
لابسة عليك سـواد يا معزّتنـا الحُرّي

ولنا أن نلاحظ أنه في هذا السياق التاريخي/الاجتماعي النوبي لا يني يذكر ويشير إلى قريته صيصاب واضعاً إياها على قدم المساواة مع المناطق النوبية الكبرى مثل المحس، أرقو والسّكوت ودغيم، ناهيك عن محس أواسط السودان الذين يشير إليهم باسم عاصمة إقليمهم "قرّي" إبّان عهد الفونج.
هذا ما كان من ذكر الخليل لاسم قريته الصغيرة "صيصاب"، وهو ذكرٌ وإن كان مباشراً إلاّ أنه يشتمل على رمزية الخليل التي قلّما تفارقه. إنها رمز للأصول والمنبت وطيب المحتد. ولكن بجانب هذا هناك أوجه أخرى أكثر عمقاً ورمزيةً يشير فيها الخليل إلى صيصاب (وصاي) في شعره. من ذلك قوله في أشهر أغانيه "عزّة في هواك":

عزّة ما نسيت جنّة بلال وملعب الشباب تحت الظلال
ونحن كالزّهور فوق التلال نشابي للنجوم واْنا ضافر الهلال

ما هي "جنّة بلال" هذه، وأي ملعب للشباب هذا الذي تحت الظلال؟ ثم ماذا يقصد بقوله (كالزهور فوق التلال)، وكيف كانوا يشبّون للنجوم تطلّعاً بينما يتزيّن الشاعر بالهلال؟ هذه الأبيات تبيّن بوضوح ما نعنيه بالبعد الخاص والبعد العام في شعر الخليل. فعلى كثرة معجبي شعره، وباستثناء معميّة (جنّة بلال) التي أثارت بعض التساؤلات، لم يؤثر عن أحد إحساسه بحاجة ماسّة إلى طرح مثل هذه الأسئلة مجتمعة. فكيفما كانت (جنّة بلال) التي يعنيها الخليل، يبدو المعنى واضحاً لا يحتاج إلى شرح. وهذا صحيح إذا ما أُخذت الأبيات في بعدها العام؛ أمّا إذا أُخذت في بعدها الخاص، فإننا نحتاج إلى إيراد قصّة بشأن طقس احتفالي مرتبط بالزواج قد اندثر في صيصاب، وهو ما يعنيه الخليل. وتدليلا على أهمّية البعد الخاص في استكناه الدلالات البعيدة التي يحتملها شعر الخليل نورد اللبس الذي وقع فيه الشاعر مبارك المغربي في كتابه روّاد شعراء الأغنية السودانية (2002: 96-97). فقد أورد الشطرة التالية على أنها (نشابّي للنجوم ونضافر الهلال) أي على وزن (ونفاعل) مبررا ذلك بقوله: "فقد سمعتُ بعض الفنّانين يغنّونها: (نشابّي للنجوم وانا ضافر الهلال) واعتقد أن الخليل غنّاها كما أوردناها". وفي رأينا أن المغربي قد جانبه الصواب وإن بدا له حقّا أن الخليل قد غنّاها (ونضافر الهلال). فربما اختفت أصوات اللين في (وانا) جرّاء الأداء اللحني للأغنية. هذا اللبس سينجلي أمره تماما عندمةا نتعرّض أدناه للدلالات الخاصة في شعر الخليل.
ترتفع غرب صيصاب كثبان الرمال كالجبال منهالةً على النيل ومغطّيةً أغلب أشجار النخيل إلاّ ما سمق منها فتغطّي أجذاعه. وجبال الرمال هذه قديمة، فقد حكى عنها الرحالة الذين زاروا المنطقة قبل أكثر من قرنين على أقلّ تقدير. فمثلاً بيركهاردت حكى عنها مع أنه لم يتمكن من دخول الجزيرة، إذ رآها من جهة ألبلي وعبري بالضفة الشرقية. لانهيالها على النيل من الضفة الغربية، وبسبب ارتفاع أشجار النخيل داخل صيصاب، تبدو كثبان الرمال للناظر من داخل الجزيرة وكأنها تقع داخل حدود صيصاب. وكما هو الحال في شواهق المرتفعات، يظنّ الناظر إليها من داخل صيصاب وكأنها قريبة جدّاً. على هذه الكثبان التي ترتفع كالجبال كان يجري ذلك الطقس الاحتفالي الذي كان يقام كختام لاحتفالات الزواج. منذ أزمان سحيقة وإلى وقت قريب كان يوقّت في صاي ومجمل بلاد النوبة لليلة العرس باكتمال البدر (ليلة قمر 14) لما للبدر من دلالات مرتبطة بالخصوبة، فضلاً عن الإنارة المجانية التي يشعّها البدر بسخاء. بعد انقضاء تلك الليلة بشهر كامل (ولنلاحظ ارتباط الشهر القمري بمفهوم الخصوبة) كان الشباب من الجنسين في صيصاب يجتمعون على هذه الكثبان كختام لاحتفالات العرس، فيغنون ويرقصون حتى الصبح، بينما أهلهم الكبار يراقبون كل ذلك وهم جلوس في باحة منازلهم بداخل الجزيرة بصيصاب، خاصّةً سوكري.
الذين عاشوا تلك اللحظات ممن التقيت بهم (ووالدي كان واحداً منهم) سلخوا العمر وهم على استعداد لبيع جزء منه لو أن ذلك كان سيعيد لهم فرحة ليلتهم تلك. فهذا هو ما يعنيه خليل فرح بقوله:

ونحن كالزّهور فوق التلال نشابي للنجوم واْنا ضافر الهلال
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

بيد أن الخليل لم تُجْرَ له هذه الاحتفالات، ذلك لأنه تزوّج بأرملة شقيقه بدري في حفل زواج صامت خيّمت عليه فاجعة فقد زين شباب العائلة وفارس حوبتها. فهل قال ذلك تمنيّاً على الماضي، أم أنه تماهي في أخيه بدري والذي فعلاً أُجريت له تلك الاحتفالات؟ في رأينا أنه قال ذلك نُشداناً واستحضاراً وجدانياً لماضٍ طفولي لا يزال حيّاً ينبض بالصور والأخيلة في مخيّلة الشاعر؛ إن الخليل في لحظات إبداعه يريد أن يمسك بتلابيب الحاضر والماضي والمستقبل، ليكثّف وجوده في المطلق حيث يتحول الزمان إلى لحظة لا تنقضي ولذّةٍ لا تنتهي، حيث لا بداية ولا نهاية، إذ يصبح الزمن كله حاضراً سرمدياً. وهذا ما نقصد بالبعد الوجودي الخاص في شعره.
ونشير إلى أن هذا الطقس مارسه أهل صيصاب حتّى منتصف العقد الخامس من القرن العشرين، ثم شرع المتعلمون (خاصةً المعلمون من أبناء بابا شيخ أحمد بقيادة محمود وحسن) على محاربته بوصفه مفسدة للشباب ولهو قد لا تحمد عقباه. بعد ذلك بخمسين عاماً (حوالي عام 1995م) سيتمّ منع إقامة حفلات الأعراس ليلاً بصاي ثم بكل السّكّوت بحجة منع الرزيلة والإباحية بين الشباب، وسيقود تلك الحملة التترية أحد المعلمين الأفضال بالجزيرة، لكن بمساعدة السلطات الرسمية في هذه المرّة (راجع ذلك في الفصل السابع). ولعمري هذا هو حصاد الأسلمة والاستعراب، فتأمّل!
هذا ما كان بشأن التلال والهلال، ولكن ماذا عن جنّة بلال؟ هو بلال بن بيرم دُكّو، وبيرم اسم أمه، ودُكّو حبوبته، وينحدر من أحمد بن علي أغا. ولا يزال هناك حي صغير في صيصاب باسم أمه (بيرم ـ ن ـ إركي)، ما يعني بالنوبية "حي بيرم". في هذا الحي أقام بلال حديقة (جنينة) زرع بها من الفاكهة والخضروات أصنافاً. وكانت تُروى بساقية ترفع الماء من النيل، فيمتدّ منها جدول إلى داخل الجنينة أسفل سورها. درج الأطفال من قبل زمن خليل فرح وإلى زمن جلال أحمد هاشم (أي في عشرينات القرن العشرين) على التسلل إلى داخل الجنينة من خلال فتحة الجدول أسفل السور ومن ثمّ التمتّع بأكل فاكهتها وخضرواتها دونما إذنٍ من صاحبها. وتعتبر تلك المغامرات من أحلى أيام الصبا لمن قضوا طفولتهم بصيصاب.
تلكم هي جنّة بلال التي قصدها الخليل بقوله:

عزّة ما نسيت جنّة بلال وملعب الشباب تحت الظلال

وما الظلال هنا إلاّ ظلال سوكري وساب وهيباب ومجمل ضفاف صيصاب على الجانب الغربي. في زمننا (أي في ستينات القرن العشرين) كنا نفعل ذات الشيئ، لكن في جنينة حفيده محمد إبراهيم بلال (1880م ـ 1973م). وكان ظنّي قد ذهب أولاً إلى هذه الجنينة، حتّى نبّهني أخي وأستاذي الهادي حسن أحمد هاشم إلى أن جنينة بلال الحقيقية في بيرم ـ ن ـ إركي.
بعد هذا يصبح من اليسير أن نفهم شعر الخليل في بعده الخاص؛ مثل قوله:

يا نيلنا يا بحر الجلال يا ابتسامة في صدرك هلال
قول للسلف خلفاً حلال نتلاقى في جنّة بلال

ولننظر هنا إلى وصفه للنيل (بحر الجلال)، وإلى مخايل الفرح (الابتسام) وأفراح الزواج (الهلال الذي يزيّن الصدر)، ثم ربط كل ذلك بالسلف، مع الوعد باللقيا في جنّة بلال والتي هي قطعاً إشارة لصاي. هذا بعد لا أرى كيف يمكن استجلاؤه إلاّ في سياق قريته صاي. ثمّ نلمس هذه الرغبة الجامحة في أن يلتقي بأسلافه في صاي. ولا يلتقي المرء بأسلافه إلاّ في عالم ما بعد الموت. ولنرى كيف يعبّر الخليل بصورة مباشرة عن رغبته هذه؛ فكأنه يريد أن يُدفن في صاي. ولنتذكّر هذا لأننا سنتوقّف عنده بعد قليل.
استناداً على هذه البيّنات، يمكن أن نصل إلى استنتاجات يجوز أن تركن لها النفس باطمئنان كبير. إن صاي تمثّل بؤرة وجدانية في وعي الخليل الوجودي، فإذا ما ذكر الصِّبا، أو جمال الطبيعة، أو النيل، أو أي إشارة من قبيل تذكّر أسلافه، مما يستثير هذا الحنين الوجودي، فمردّ ذلك إلى صاي. من ذلك مثلاً قوله في أغنية "نيل الحياة":

يا الله يا وطن الصِّبا بالعافية يا روح الصَّبا
بفداكَ من قلبي الصَّبا بي مالي بي دم الصّبا
[size=21]بالضبط مثلما لو ذكر النجوم والبدر والليل والسرى وركوب المطايا، فذلك مرَدُّه إلى تجاريب سفره الأولى في باكر صباه، والتي أصبحت أيضاً بؤرة وجدانية في وعيه.

على هذا سنقوم هنا بإعادة استقراء لواحدة من أشهر أغانيه، وهي تلك التي ـ فيما أرى ـ تُنسب حصراً إلى مدينة ود مدني والتي يقول فيها:

مالُو أعياهو النضـال بدني
وروحي ليـه مشتهية ود مدني
ليـت حظي سمح وأسعدني
طوفة فد يوم في ربوع مدني
كنت أزور أبوي وود مدني
واْشكي ليهُو الحضري والمدني

في البدء أخذتُ هذه الأغنية على أنها لا تعني غير مدينة ود مدني. ولكن بعد قليل من التّأمّل بدت لى احتمالات وجيهة لاستقراء آخر قد لا يتعارض مع ما أُشيع عنها. ما دفعني إلى هذا الاستقراء بادئ ذي بدءٍ الأبيات التالية:

آهِ على حشاشتي وْدَجَـني
وحنيني وْلوعتي وْشجَـني
دار أبويَ وْمتعتي وْعجَـني
يا سعادتي وْثروتي وْمجَـني

فكلمات مثل (دجني) و(عجني) و(مجني) استوقفتني كثيراً، إذ لا يستقيم لها معنى إذا ما قُرئت في سياق مدينة ود مدني. فالأولى، ولا ترد في عون الشريف [2002]، من التدجين بمعنى التربية في الطفولة؛ والثانية، وترد في عون الشريف [2002: 734] بمعنى التّدليل، أي "الدّلع"، ترتبط أيضاً بالتربية في الطفولة. إذن فكلاهما تشيران بوضوح إلى مراحل طفولته ونشأته، وهي قطعاً لم تكن مدينة ود مدني، والتي لم يرد عن علاقة الخليل بها أكثر من أنه زارها في بعض مناسبات عابرة. أكثر من ذلك نجده يتكلم هنا عن (دار أبوي ومتعتي وعجني) ثم (يا سعادتي وثروتي ومجني). فدار أبيه في صاي وهناك في صباه كانت متعة حياته، بدليل أنه يردف بقوله (وعجني)، أي مرتع ودلّ طفولته. ثم أين كانت ثروة أهله إن لم تكن في صاي ودنقلا المدينة ثم جزيرة مقاصر وحفير مشّو. ولكن ما يجعلنا نركّز على صاي هنا ذكره لأيام لهوه (مَجَنِي)، وهو اللهو والمجون البرئ الذي أُثر عن الخليل في باكر شبابه عندما كان يتغزّل مغنّياً بالنوبية في بعض بنات أهله الوردياب، فبعد ذلك لم يشدُ الخليل بألحانه للعامة أبداً.
ولكن ماذا عن ورود اسم مدينة ود مدني بطريقة يبدو أن ليس فيها لبس أو غموض، مما يمكن أن يؤخذ كبيّنة على أن الأغنية فعلاً قيلت فيها؟ ثم ماذا عن رواية أحمد الطريفي الزبير باشا وتوفيق أحمد البكري اللذين ذكرا أنهما كانا مع الخليل بمصر في المستشفى عندما قامت ثلاث فتيات من مدينة ود مدني بزيارته ممارضةً له، فكان أن أنشد على شرفهنّ الأغنية، وهي فعلاً آخر أغانيه؟ بعيداً عن إثارة أسئلة من قبيل (من هنّ تلك الفتيات، وبنات من هُنّ؟ وما هي ظروف ذهابهنّ إلى القاهرة، ألوحدهنّ أم بمعيّة ذويهنّ، أم كُنّ يعشن بالقاهرة؟)، ونأياً بأنفسنا عن التشكيك في رواية ثُقاةٍ أحبار من روّاد الحداثة، نصدع برأيٍ لا ينهض على نقض ما ورد إلينا من رواية، وذلك اتّكاءً على نظريتنا فيما يتعلّق بالبعد الخاص والبعد العام في شعر الخليل. ونبدأ باسم (ود مدني)، فنكشف عن أوجه أخرى جائزة لنطق الكلمة.
وفي هذا نكتة متعلّقة بمسألة اللغات الأفريقية النغمية، والنوبية واحدة منها. وكنّا أشرنا إلى هذه المسألة عندما ذكرنا اسم عبد الكريم خيري وردي، وكيف أنه كان يجري عليه لقبه "أوشّي" (O'shsh`i)، والتي تستخدم كمقابل لاسم "عبده" بالنوبية. كما أشرنا إلى كلمة العبد بالنوبية (O`shsh'i). ونلاحظ أن كلا الكلمتين تكتبان بنفس الطريقة من حيث الأحرف، بينما كل واحدة منهما تُنطق بطريقة مختلفة، وهذا ما استدعى إدخال العلامات النغمية. من جانب آخر نجد أن العلماء يبدون وكأنهم متّفقون في أن اللغة العربية ليست نغمية. هذا ربما كان صحيحاً، وربما كانت الخصائص النغمية موجودة في تصويتاتها دون أن يكون لها دور في إحداث أيّ تمايزات دلالية. هذا عن العربية الفصحى، ولكن ماذا عن اللهجة العربية العامية بوسط السودان، وهي الوسيط الذي عبره كتب الخليل شعره؟ في رأينا أنها قد تبنّت بعض الخصائص النغمية الممايِزة دلالياً، وسنسوق بعض الدلائل التي نأمل أن يتوسّع فيها الباحثون دعماً أو نقضاً.
في اللغة العربية نجد الجذر (شرّ) لعديدٍ من الكلمات والأسماء، ومنها "تأبطّ شرّا"، و"رجلٌ شِرّيرٌ"، إلخ. ثم نجد الكلمة (شَرْ)، والتي تُقال للصوت الخافت يُحدثه الماء وما جرى مجراه منسرباً. ما نريد أن نلفت النظر إليه أن الراء الواردة في الكلمة الأولى تختلف عن تلك الواردة في الكلمة الثانية. فالرنين الوارد في كليهما من حيث عدد الرَّأْرَآت (واسمحوا لي بنحت هذه الكلمة واستخدامها تبسيطاً) ليس واحداً. فعلى سبيل المثال، ولتبسيط المسألة، إذا شبّهنا عدد الرّأرآت الكامنة في الرنين الذي يحدثه نطق حرف الرّاء بأسنان المشط، سنلاحظ أن عدد أسنان الرّاء في كلمة (شَرّ) الأولى أقلّ من عدد أسنان الرّاء الواردة في كلمة (شَرْ) الثانية. بهذا يجوز لنا أن نكتب الأخيرة على النحو التالي (شَرْرْ) تمييزاً لها عن (شَرّ) الأولى. والراء الزّائدة هنا مسكينة ومظلومة، فهي أشبه بالواو الواردة في (عَمْرو). إن الاختلاف بين الكلمتين، ليس في الأحرف (أو الأصوات)، فكلاهما راء لا غبار عليهما؛ إلاّ أن نغمة الرّاء الواردة في كلمة (شَرّ) تختلف عن نغمة الرّاء الواردة في كلمة (شَرْ) والتي ميّزناها بكتابتها على النحو التالي (شَرْرْ). ما يهمّ هنا هو أن اختلاف نغمة الرّاء في الكلمتين يفضي إلى اختلاف في المعنى واضح. هذا مثال تشترك فيه اللغة العربية بمستوييها، العامي والفصيح. لذا سندعم ما ذهبنا إليه بمثال آخر تشترك فيه العامية العربية بلغةٍ سودانية هي النوبية (وربما توجد نفس الكلمة التي سنتخذها مثلاً في لغات سودانية أخرى، والله أعلم). وسنعاني بعض الشيئ في سبيل كتابة الكلمة التي سنتّخذها مثالاً، ذلك لأن الحرف الذي تبدأ به (أي الصوت بلغة اللسانيِّين) مما لا قبل للعربية به، وبالتالي ليس له مقابل أبجدي في الكتابة العربية. هذا الصوت مزيج بين صوتي الجيم والنون، وقد تصالح اللسانيون ممن استخدموا الحرف اللاتيني على كتابته بالحرفين التاليين (ny)، وفي اللغة النوبية القديمة كُتب هذا الصوت بالشكل الكتابي التالي (). الكلمة محلّ البحث والتقصّي هنا يمكن كتابتها باستخدام الحروف اللاتينية على النحو التالي (nyar)، وباستخدام الحروف النوبية القديمة يمكن كتابتها على النحو التالي (). ولكنّا نشير إلى أن نطق هذه الكلمة في اللغة النوبية الحالية ليس بالفتح على هذا النحو، بل بالضّمّ، على النحو التالي بالحرف اللاتيني (nyur)، ثم إنها لا ترد في اللغة النوبية إلاّ مكررة على النحو التالي باللاتيني أيضاً (nyurnyur). أما في العامية العربية، فترد بكلا الوجهين، أي مفردة (nyar) ومكرّرة (nyarnyar)، ثم بصيغةٍ ثالثة مفردة سنتعرّض لها لاحقاً. وقد أوردها أستاذنا عون الشريف في قاموسه [2002: 967] في صيغتها المفردة وفي باب النون، أي (نَرْ)، ذاكراً أنها سودانية وشارحاً لمعناها على أنه الصوت تخرجه القطط أو الكلاب إذا هرّت: "هرّ وصوّت كالهرّ الغاضب"، ومشيراً إلى أن النون هنا ليست النون العادية بل تشوبها وتخالطها جيم: "النون بين الجيم والنون". ولكنها لا ترد في صيغتها المكررة في قاموس اللهجة العامية لأستاذنا الجليل عون الشريف. هذه الكلمة تعني في اللغة النوبية الغمغمة والهمهمة بما يشير إلى أن الشخص المعني غير راضٍ بأمر ما، ولكنه بدلاً من المجاهرة برأيه، يغمغم. مثل هذا الشخص يُواجهُ بصيغة الاستنكار التالية: (?ir minga nyurnyuri)، أي (بماذا تغمغم أنت؟). أما في العامية العربية فتعني في صيغتها المكررة (فيما تعني) الإلحاف في السؤال إلى درجة إحداث "النّرفزة" دونما غضب بحيث ينال مُلحفُ السؤال سُؤله في نهاية المطاف. يقولون في مثل هذه المواقف (وسنكتب هذا الصوت المُشْكِل بحرف جيم ذات أربع نقط): "والله ﮀَـرْﮀـَرْناهو ليك جِِنِس ﮀَـرْﮀَـرَة!". وهذا التفسير لا يرد في عون الشريف. أمّا الكلمة في صيغتها المفردة (ﮀَـرّ)، فلها معنى آخر بالإضافة لذلك الذي أورده عون الشريف. فهي تعني صوت صغار القطط والكلاب حديثي الولادة عندما تنادي أمهاتها، وهذا أيضاً لا يرد في عون الشريف. وهنا يأتي حديثنا عن الصيغة الثالثة التي أشرنا لها أعلاه، وهي (جَرّ) وبذات المعنى أعلاه، لكن بصوت الجيم فقط دونما اشتباك مع النون. هذه الكلمة بصيغتها هذه تختلف تماماً، نغماً ومعنىً، عن الكلمتين (جَرْ) لانتهار الكلاب، والكلمة العربية الأخرى (جَرَّ يجُرُّ جَرّاً) واللتين تردان في عون الشريف [2002: 190]. قالت النائحة ترثي الملك الناصر بن محمد أبو لكيلك:

[color=#ff0000]يا عيش الصُّبَر لمّا اليتامى يَجُرُّوا
[size=21]وفي الرواية الأخرى:


يا عيش الصُّبَر لمّا اليتامى ﭔـَﮀـُرُّوا

الرّاء الواردة في هذه الكلمة في صيغها الثلاث (واحدة مكررة واثنتين مفردتين) تختلف نغمياً عن الرّاء العادية التي نألفها في تصويتات اللغة العربية، عامية وفصحى. ولنلاحظ أن ما يميّز (جَرْ) لانتهار الكلاب مقرونةً مع الفعل (جَرَّ) عن هذه الكلمة في أيٍّ من صيغها الثلاث، هو النغم المتعلّق بالرّاء فحسب. وهذه ـ فيما يبدو لنا غير جازمين ـ خصائص نغمية، وعسى أن نتفرّغ لها في مقبل الأيام، أو أن يتصدّى لها أحد الشباب، فيميط لثامها، من تلاميذ أستاذنا الجليل عالم اللغويات البروفسور الأمين أبو منقة، مدير معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، بجامعة الخرطوم.
والآن فلننظر في أمر الكلمة محلّ النقاش في سياقها المعجمي، أي دون إدخالها في جملة: (بلدي)؛ حتماً سينطقها كل واحد من القراء السودانيين الناطقين بعامية وسط السودان حسبما يتّفق لهم من مزاج نفسي. لكن فلنتأمّل نفس الكلمة في سياق الجملتين التاليتين: الأولى: (السودان بَلَدِي) بمعني أنه وطني؛ والثانية: (مُلاح بَلَدِي) بمعنى طعام شعبي. هنا يتضح الفرق وهو نغمي وذو أثر كبير لأنه يمايز بين معنيين. ويكون الفرق أكثر وضوحاً إذا ما كتبنا الكلمتين بالأحرف اللاتينية مع إدخال العلامات النغمية: الأولى (b`alad'i)، والثانية (b'alad`i).
بالعودة إلى (ود مدني)، وبتطبيق نظرية الخصائص النغمية للعامية العربية، نصل إلى ملاحظات جدّ مفيدة. فإذا نطقناها على طريقة (مُلاح بلدي)، ستكون على النحو التالي: (M'adan`i)، وهي اسم مدينة ود مدني نسبةً إلى ولّيها المدفون بها السُّنّي المدني؛ أمّا إذا نطقناها بطريقة (السودان بلدي)، فستكون على النحو التالي: (M`adan'i)، أي من (المَدَن) وهنا تعني (البلد). ورد في عون الشريف قاسم [2002: 917] قول الشاعرة الشايقية:

وكِتْ جانا الزّمان المدّن الناس
خلّينا الْمَدَن ما عِنْدُه قانون

والمعنى واضح لا يحتاج إلى شرح، فهي تقول ما معناه: (خلّينا البلد ما عندو قانون).
بهذا الفهم يكون الخليل قد غنّى لبلده صاي في مستوى البعد الخاص لشعره، في الوقت الذي ربما أشار فيه لود مدني مجاملةً لممارضيه من حسان وكعاب ود مدني، وذلك في مستوى البعد العام لشعره. إذ إن إحالة هذه الأغنية إلى مدينة ود مدني تجعلها معلّقة في الهواء لا يستقيم لها معنى ولا يكتمل لها سياق. بينما إعادة قراءتها في سياق جزيرة صاي تجعلها تقف بقدميها مفصحةً عن حقيقة دلالاتها ولواعجها. فذا رجلٌ على فراش الموت وقد ضعف منه الجسد فلا يقوى على حمل الروح، فكان أن حنّت نفسه لأيام صباه وطفولته عندما كان جسده يضجّ بالحياة والأمل.
ولا يخالجني شك في أن الخليل تحرّى خطوات أهل صاي ممن أصيبوا بذات الرئة، فضلاً عن حبيبه وخدن روحه أخيه بدري، والذي مات بذات الرّئة أيضاً. فقد عاد بدري إلى الخرطوم من تلودي وهو يشتكي المرض فتوّجه إلى وادي حلفا ولا ندري إن كان قد ذهب إلى مصر للاستشفاء. ولكن عندما استوثق من أن معركته مع المرض ليست في صالحه، طلب من أهله أن يعودوا به إلى جزيرة صاي، مع ما في ذلك من مشقّة عليهم وعليه، فقد كان السّفر بالجمال ويمتدّ لأيّام وأيّام. في هذا كان بدري نفسه يتحرّى طقساً رجولياً خاصاً بأهل صاي ممن أصيبوا بمرض السل. فأهل صاي يطلقون على مرض السل اسم "مرض الأشدّاء"، ولهم في ذلك جملة بالنوبية مأثورة، وهي (Kurkadiin oddee)، وهي شدّة روحية وليست جسدية. فقد جرت عندهم العادة أن يعود مرضى السل إلى الجزيرة ليقضوا نحبهم فيها. ولكن تلك العادة اقتضت شيئاً آخر؛ فبما أن هؤلاء المرضى كان محكوماً عليهم بالموت نسبةً لأن السل كان حينها مرضاً قاتلاً لا علاج له، كان عليهم أن يظهروا شجاعتهم وعدم جذعهم من الموت بأن يعودوا إلى صاي وهم في حالات نفسية طيبة، تعلو محياهم البسمة وسيماء الفرح وكأنهم موعودون بالخلود في الدنيا والآخرة. وكان عليهم أن يستمتعوا بآخر أيام عمرهم في حبور وسعادة، مستخفّين بالموت، دون أن يسمحوا للحزن أن يعكّر صفو لحظاتهم الأخيرة مع أهلهم وذويهم وأطفالهم.
مات بدري فرح ودُفن في صاي، وجاء الخليل يبكي أخاه الحبيب، وكان أثيراً لديه. ثمّ لمّا انتهت أيّام العزاء عاد إلى الخرطوم ليرجع بعد عام فيتزوّج بأرملة أخيه (سلامة إبراهيم أغا والتي عُرفت بشلاّلية) في عام 1923م، ومنها انتقل فيروس المرض إلى الخليل، بينما لم تُصب به سلامة حتى مماتها. فكيف لا نتوقّع من الخليل أن يفعل كما فعل أخوه بدري فرح، عندما طلب أن يموت ويدفن بصاي، أي أن يموت ميتة الرجال الأشدّاء من أهل صاي. وإلاّ فيم قوله:

يا نيلنا يا بحر الجلال يا ابتسامة في صدرك هلال
قول للسلف خلفاً حلال نتلاقى في جنّة بلال

ولنا أن نراجع الحكايات التي تروي كيف أن الخليل قال شعراً بخصوص استخفافه بالمرض واستعداده لملاقاته على أن يكون ذلك في سياق الاستمتاع المطلق بآخر لحظات العمر. وأقول ـ غير جازم ـ كأنني سمعت في منتصف السبعينات من أخيه علي فرح بدري كلاماً من قبيل رغبة الخليل في العودة إلى صاي ليموت فيها وهو عائد من رحلته الأخيرة من مصر، ولكن حال دون ذلك اعتلال صحته الشديد.
في هذا لن يكون الخليل أول ولا آخر نوبي هجر قريته في رحلة الاستعراب الخاسرة حتّى إذا امتدّ به العمر ووهن منه العظم، شدّ الركاب في رحلة يبغي بها الرُّجْعَى، ولات حينة رجعى. وكنت أشرت قبل سنين لحالةٍ مماثلة بطلها الشاعر النوبي محي الدين فارس، وذلك عندما ظهر ديوانه صهيل النهر [1990م]؛ فالرّجل كان يبكي في أغلب قصائد الديوان طفولته المنسية تحت ظلال النخيل والأشجار على ضفاف النيل بقرية نوبيةٍ اسمها أرقو لم تنل حتّى شرف أن يذكرها من قبل ولو بعدد المرات القليلة التي ذكر فيها الخليل قريته؛ والخليل ضاع أغلب شعره فلم نقع عليه، والفارس المحي الدين جمع بنفسه شعره دون شاردة أو واردة. وقبل ذلك بكثير ذكر الشاعر العملاق ابن صاي (صيصاب) جيلي عبد الرحمن قريته صاي ولكن بطريقة غير مباشرة، وذلك في قصيدته (أحِنُّ إليكِ يا عَبري):

أحِنُّ إليكِ يا عبري حنيناً ماج في صدري
وأذكرُ عهْدَكِ البسّــامَ عهدَ الظلِّ في عمري

وربما دفعه إلى مباشرة القصيدة باسم عبري انتهاء اسم صاي بياء عصيّة على القافية، فلا هي منقوصة ولا هي مقصورة. وقد أسبغت تلك القصيدة غُلالةً من الرومانسية على عبري، خاصةً وأنها كانت من القصائد المقرّرة على تلاميذ المدارس طيلة عقد السبعينات، وربما لا تزال. فهنا جيلي يذكر عبري، بينما هو في الواقع يحكي عن قريته صاي. وقد مرّ بعد ذلك بعبري الأستاذ المربي عوض عبد القادر فقير (من عرب حاج بدنقلا العجوز) وكان قد سلخ بعضاً من عمره يدرّس تلاميذ المدارس قصيدة (أحِنُّ إليكِ يا عبري) شرحاً وتلحيناً وأداءً، فعلقت نفسه بالبلدة الطيبة دون أن يراها. ولكن عندما رآها رؤيا العين، هاله أمرها، فعارض قصيدة جيلي بقصيدة أخرى من جياد الشعر، نذكر منها الأبيات التالية:

معاذ اللهِ يا عبري أهـذي بلـدةُ الشـعرِ؟
أللجدبِ وللصخرِ حنينٌ ماج في صدري؟

فليته زار عبري الضفاف لا عبري فوق، حيث المدرسة و المستشفى والمجلس البلدي، وليته، قبل ذلك وبعده، زار صاي نفسها، لرَأى حينها ما عناه شاعر القصيدة، جيلانيُّنا.
إذن فالرمزية في شعر الخليل تحتمل استقراءً جديداً يأتي في سياق البعد الخاص لشعره، فكأنه هنا يخاطب ذاته، مستثيراً في ذلك وجوده، وليس ذكريات طفولته فحسب. وهو إذ يقوم بهذا لا يسلب عامة جمهوره في نفس الوقت من حقّهم في استقراء شعره وفق سياقٍ عام، له بعده الجغرافي والاجتماعي الخاص بأمدرمان والخرطوم وما جاورها (أو ود مدني)، كما له بعده الوطنيٍّ العام. فشعر الخليل كالفنّ التشكيلي، لا تكتمل حلقة إبداعه إلاّ بإسقاطات الجمهور المتلقّي لمعاني جمالية خاصة به دون أن ينحصر في أي دلالات عناها المبدع؛ وهذا مكمن الحرية في الإبداع. بهذا يتجاوز شعر الخليل الدلالات المعجمية للغة، ليختطّ لغته الخاصة. فشعره لا تحمله اللغة، بل هو الذي يحمل اللغة، وهي في ذلك لغة خاصة به، أي خطاب شعري خاص به، لا يُفسّر شعره بدونه، ولا يجوز أن يُستخدم في تفسير شعرٍ آخر.
من أمثلة البعد الخاص في شعر الخليل ـ كأن يقول شيئاً يفهمه الناس على شكل، بينما يقبل قراءةً أخرى أقرب إلى الخليل للعارفين من ذوي قرباه الروحية والاجتماعية ـ ما قاله مبارك المغربي (2002: 99) في تفسير:

في يمين النيل حيث سابق كُنّا فوق أعراف السوابق
الضريح الفاح طيبو عابق السّلام يا المهدي الإمام

فقد قال المغربي: "(أعراف السوابق) أعراف جمع عُرف وهو شعر الفرس؛ والسوابق جمع سابق وهو أول الخيل؛ معناه كان يمتطي مع رفاقه صهوات الجياد". وتعليقا على هذا كتب حبر أغنية الحقيبة الأستاذ عوض بابكر (وقد زيّن كتاب مبارك المغربي بتعليقات هامشية زادته عمقا على عمق هذا بالرغم من أن اسم أستاذنا عوض بابكر قج سقط من الطبعة إذ لم يشر إليه الناشر فيما جاء سهوا حسب علمنا) على هامش الصفحة تحت الرقم (1): "في رأينا المقصود ب (كنّا) هم أنصار الإمام المهدي وهم الذين كانوا يعلون أعراف السوابق. ويقصد بيمين النيل الجهة التي بها الطابية التي أقامها أنصار المهدي ويمينها يقع ضريح الإمام. لذا قال الشاعر (في يمين النيل حيث سابق) يقصد معسكر الأنصار؛ وسابق إشارة إلى الماضي وهو فترة الثورة المهدية" (المرجع السابق). إن الفرق بين هذين التفسيرين والذي يبدو كأن لا شيئ يجمع بينهما يتمثّل في أن أحدهما - وهو تفسير مبارك المغربي - يعتمد على اللغة في دلالاتها القاموسية بينما الثاني - وهو تفسير عوض بابكر - يعتمد على اللغة في دلالاتها الخطابية المتعلّقة بكلام قاله شخص متعيّن هو هنا خليل فرح. وهذا ما نعنيه بالبعد العام والبعد الخاص في شعر الخليل.



[size=21]بالعودة إلى صاي في هذا الخصوص أشير إلى ما قاله لي ابنه فرح خليل في تفسير ما ورد في أبيات بعينها من أغنية "ما هو عارف قدمو المفارق" على أنها قيلت في ابنته عائشة خليل، وذلك عندما أزفت لحظة الوداع في رحلته الأخيرة إلى مصر، والتي سيعود منها ليموت. فقد قال بأن أخته عائشة تعلّقت بأزيال والدها وهي تجهش بالبكاء حتّى شرِقت. تقول الأبيات:


أين منّي الودّعتو شاهق باكي ناهد لسّع مراهق
عيني ما بتشوف إلاّ شاهق أين منّي البدر التّمام

إذ شَرَح قوله (... شاهق باكي ناهد، لسّع مراهق) على أنها قيلت في ابنة الشاعر عائشة خليل، وهذا لا يصّح في رأينا إلاّ باعتباره جزءً من المعنى. فعندما تُوفّي الخليل كان عمر ابنته عائشة لا يتجاوز السادسة من العمر، فكيف توصف طفلة في هذا العمر على أنها ناهد، ثم في سن المراهقة؟ فماذا يا تُراه يقصد الخليل؟ في رأينا أن ما يخصّ ابنته من البيت ينحصر في الشطرة الأولى، في (شاهق)، أي أن يشهق المرء من شدّة البكاء والنحيب، وهذا ما ينطبق على الحالة التي حُكيت عن الطفلة الصغيرة. أما الشّطرة الثانية فتختصّ فعلاً بفتاة ناهد في سن المراهقة. فمن هي يا تُرى؟ إنها قطعاً أخته فاطمة والتي كانت تعيش معهم في الخرطوم لتساعد سلامة شلالية في العناية بالطفلين، فرح وعائشة ولم تغادر قافلةً إلى صاي إلاّ بعد وفاة الخليل. حينها كانت فاطمة فرح (أو بابّا ييّا كما تُعرف بالنوبية) فعلاً في سن المراهقة.
وحكت مرّةً (عليها رحمة الله) إحدى الطرائف التي كثيراً ما أُثر مثلها عن النوبيين الذين لا يعرفون العربية، إذ طلب منهما الخليل بصرامته الأسرية المعهودة أن يفتحا الديوان لضيف كان يتوقّعه في يوم جمعة ما وذلك إذا ما حضر في فترة غيابه لأنه كان خارجاً في مشوار قصير ولن يطول. وبالفعل ما إن خرج الخليل حتّى طرق طارقٌ الباب، دون أن تجرؤ سلامة شلالية أو بابّا ييّا على فتح الباب وذلك لجهلهما المطلق باللغة العربية؛ فبالإضافة إلى كونهما غير قادرتين على التحدّث بأي كلمة باللغة العربية، لم تكونا قادرتين أيضاً على فهم ما يُقال لهما. وهكذا طرق الطارق الباب حتّى كلّمته يداه، ثمّ نادى على الخليل باسمه، وعندما لم يلقَ مجيباً من ساكني الدار، غادر إلى حال سبيله. بعد ذلك بدقائق عاد الخليل، فكان أن استفسر أول شيئ عمّا إذا كان الضيف قد أتى. فقالتا له بأنه لم يأتِ، دون أن تذكرا له أمر الذي طرق الباب ثم مضى عندما لم يُفتح له بعد أن نادى اسم الخليل مرّتين. للمرّة الثانية شدّد عليهما الخليل أن تفتحا الباب لأنه يتوقّع هذا الضيف الذي أكّد له أنه سيحضر ظهر الجمعة لتناول الغداء معه ومن ثمّ المضي معاً في بعض شئونهما. ثمّ خرج الخليل في مشوار قصير كالأوّل. بعد ذلك بدقائق تكرّر الطرق على الباب من نفس الشخص وقد نادى اسم الخليل مرّتين، ثمّ مضى. في كل هذا كانت سلامة شلالية وبابّا ييّا تلتزمان الصمت المطبق. بعد قليل عاد الخليل وبدا عليه الانزعاج الشديد عندما قالتا له بأن أحداً لم يحضر، فقرّر أن يخرج باحثاً عن صديقه متمنّياً ألاّ يكون قد حدث له مكروه. هنا فقط حكت له سلامة شلالية حقيقة ما جرى وسبب امتناعهما عن فتح الباب له. فخرج الخليل وهو غاضب، لكن دون أن ينبس ببنت شفة.
هذه هي الشخصية المعنية بالشطّرة الثانية التي تقول: (باكي ناهد لسّع مراهق). ونلفت نظر القارئ إلى أسلوب الخليل في الانتقال من "ثيمة" (من theme) ابنته إلى "ثيمة" أخته دون أن يمدّ القارئ بأيّ مؤشّرات قد تساعده في ابتناء فهم كهذا؛ فكأنه يكتب لذات نفسه. لكن الحقيقة أنه يكتب في مستويين، خاص يخاطب به ذات نفسه، وعام يخاطب به الآخرين.
كما نرى الكثير من النقّاد عادةً ما يفسّرون قوله:

عيني ما بتشوف إلاّ شاهق أين منّي البدر التّمام

على أنه قاله إشارةً لعلوّ العمارات والبنايات بمصر، حاجبةً بذلك القمر والبدر والنجوم، ثم السماء. وهذا جائز في البعد العام؛ لكن ماذا عن احتمال أن تكون ذات الشاعر هي المعنية بذلك في جموحها الطّمّاح للمعالي والجمال؟ ولنقارن ذلك بقوله:

عزّة ما سليت وطن الجمال ولا ابتغيت بديل غير الكمال

لذا لا نظنّ أننا نجافي الحقيقة إذا ما زعمنا أن الوطن عند الخليل يبدأ بصاي وينتشر متمددّاً ليشمل كل السودان. وبهذا يجوز لنا أن نقرأ أبياته التالية وما جرى مجراها في شعره باعتبار أنه يخاطب فيها وطنه الصغير "صاي"، وذلك في إطار
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
معتصم محمد
عضو ماسي
عضو ماسي



عدد المساهمات : 297
تاريخ التسجيل : 02/12/2010

خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم Empty
مُساهمةموضوع: رد: خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم   خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم Icon_minitimeالجمعة يناير 07, 2011 3:05 am

محمد جلال هاشم



أمّا من الشعر النوبي، فقد روى عن الخليل قوله:

Kalla shiira jar gasko
Agashla esmarin kochcha

ثمّ روى عنه من إنشاده بالكلّكيّة إشارةً لشخصين من أصحاب الجمال كانا يرافقانهم واسمهما رفاعة وفرح:

Rufaaya Hasan tood kamillogo
Farah wad Hiseen kamillogo

ما يجعلنا نتردّد كثيراً في الأخذ بهذه الرواية سببان متناقضان؛ الأول عدم دقّتها في أشياء لابدّ من الدّقّة فيها. من ذلك إشارتها إلى أن القائم بأمر المشرع كان شخص اسمه عبدون زهرة، أي عبدون هاشم، ونحن نعلم أن الأمر لم يكن كذلك إلاّ بعد معركة سوكري وأمبي حول أمر المعدّيّة بعيد عام 1925م، وزواج الخليل تمّ في عام 1923م. الشيئ الثاني ما ورد في الرواية من أن المجموعة المصاحبى للخليل توقّفوا بقرية عمارة عند بابّا ييّا أخت الخليل، ونحن نعلم أن عمرها آنذاك لم يكن قد تجاوز السادسة بأي حال من الأحوال. وقد تمّ زواجها واستقرارها بقرية عمارة بعد وفاة الخليل. السبب الثاني المناقض للأوّل هو التّدقيق فيما لا ينبغي من تفاصيل لا تؤثّر في القصّة، وعادةً ما ينتهي الأمر بالرّواة إلى نسيانها. من ذلك الإشارة إلى أن المرأة التي قال فيها خليل فرح تلك الأبيات هي سكينة عبدالله، وذلك عندما كانت بصحبة ابنها الصبي محمد (راويتنا محمد عباس مصطفى، أي شيخ البلد فيما بعد). فمثل هذه التفاصيل مما لا ينبغي أن يعلق بذاكرة رجل غريب عن صاي جاءها عابراً. ثم الإشارة إلى أن المسئول عن المعدّيّة كان شخصاً اسمه عبدون، إذ ما هي أهمّية هذه المعلومة، فضلاً عن أن ورودها في متن الأبيات قد أحدث خللاً في القافية لا يخفى؛ فكأنها أٌُقحمت إقحاماً. فلو أنه قال (البنات في مشرع أبدوم) لكان ذلك أقوم قيلاً لصدر البيت وقافيته. ولكن هذا لا ينفي أهمّية المعلومة في عموميّاتها لا في تفصيلاتها، والتي يبدو أن الخطوط الفاصلة بين الراوية المباشر لنا (محمود صالح إبراهيم) والراوية غير المباشر (المدعو فرح) لا تبدو واضحة. فعسى أن يدفع هذا بنا لمزيد من العمل الحقلي لجمع كل صغيرة وكبيرة مما تبقّى من أثرٍ للخليل باللغة النوبية.
إذن فقد ضاع منّا الخليل النوبي وضاعت أغانيه باللغة النوبية. وهنا يوجد تناقض له صلة بالحراك الثقافي ـ نوبياً وعربياً ـ لدى النوبيين. فخليل لم يغن أغانيه العربية لعامة الناس بأمدرمان. فوقتئذٍ كان الغناء عيبًا، لا يليق بأبناء القبائل أن يأتوا به (ويقصد بها القبائل ذات الأصول العربية أو المستعربة). إنها ثقافة العيب والتحريم الصارمة التي عرفت بها الأيديولوجيا الإسلاموعروبية منذ تدشين مملكة الفونج. إلا أن الخليل تغنى للعامة بأغانيه النوبية في جزيرة صاي. بل أكثر من ذلك تغزل في بعض بنات صيصاب من أهله الوردياب، كما وردت الإشارة إلى ذلك. ويكمن التناقض في أن يضيع غناء الثقافة المتسامحة، بينما يبقى غناء الثقافة المعادية للغناء. إن هذا يعكس لنا الوجهة الثقافية للأيديولوجيا السائدة. فقد ضاع خليل فرح النوبي، بينما بقي خليل فرح المستعرب، حتى إذا اكتسبت مؤسسة الغناء مشروعيتها الثقافية فيما بعد، تم ترميز خليل فرح وتنصيبه شاعرًا للوطنية، عبر وسيط الثقافة العربية.
ولكن يبقى السؤال الأهمّ: هل من سبيلٍ إلى إحياء الخليل النوبي؟ هذا ما سنتتطرّق له في الفصل السابع، فليُراجع أدناه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
خليل فرح رجل بقامه امة..بقلم محمد جلال هاشم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  البروفسير محمد هاشم عوض- ابو الاقتصاد السوداني
» الراحل / محمد خليل شفا
» محمد خليل @القدوه الحسنه
» الشاعر محمد أحمد محمد سوركتي
» خليل فرح

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات معتصم أقداوي للثقافة والتراث النوبي :: الـمــنـتـديـات الـنـوبـيـة :: منتدي نجوم في سماء النوبة-
انتقل الى: