:
خليل فرح: رجل بقامة أمة
مقدمة
لم يُشتهر أديب وفنّان سوداني كما اشتُهر الخليل. ومع ذلك يكتنف الغموض الكثير من جوانب شخصيته. قد يرجع البعض ذلك إلى ضياع أغلب شعره بالعربية العامية، ثم جميع ما كتب من شعر بالنوبية، ما عدا مقطع واحد أو مقطعين. وهذا صحيح، إلاّ أنه ربما كان بعض الحقيقة. فخليل فرح كان رجلاً ذا شخصية عميقة وغامضة. ثم إن خطابه الأدبي، مع سهولة لغته الشعرية ومفرداته وجزالة تعابيره، لم يكن سهلاً ومباشراً. فقد كان خطابه يتحرّك في مستويين: عام وخاص. فإنتاجه الشعري دائماً ما يحمل معنيين، أحدهما عام يفهمه الجميع، وآخر خاص به شخصيّاً. كان خليل فرح يحرص كل الحرص على البعد الخاص في إنتاجه الفني، إذ من الواضح أنه لم يكن يعطي متلقّي فنّه أيَّ مؤشّرات لاستكناه البعد الخاص في خطابه، ناهيك عن سبر أغواره. وقد نجم عن كل هذا أن استقراء خطابه الأدبي انكفأ في أغلبه على المستوى العام، الأمر الذي أدى ـ فيما نظن ـ إلى رسم صورة غير كاملة عنه تطورت مع مرور الأيام إلى صورة نمطية. في هذا الجانب سنحاول أن نستقرئ البعد الخاص في خطابه الأدبي لنلج عالماً ربما لم يُتح لأحد من قبل. وسوف نتطرّق في هذا أولاً لمصادر لغته العامية؛ وثانياً أثر تجربة التّسفار بقوافل الجمال على حسّه الكوزمولوجي، وهو ما نسمّيه بالوعي الوجودي؛ ثالثاً، نتكلّم عن شعر الطبيعة عند الخليل؛ ورابعاً نختم بمكانة صاي في عالمه الشعري الخاص الذي أشرنا له.
ويمكن إرجاع هذا التراوح ما بين العام والخاص إلى طبيعة شخصيته والطريق الذي اختطّه لنفسه في سياق الثقافة الاجتماعية آنذاك. فصورة خليل فرح في الحياة العامة ـ مثلاً ـ تختلف كل الاختلاف عن صورة حياته الخاصة، أي داخل أسرته. كما تختلف شخصيته في الحياة العامة عن شخصيته في الحياة الخاصة داخل أسرته. ففي الحياة العامة كان معروفاً بالبشاشة واللطف والظرف ولين الجانب مع أصدقائه، فضلاً عن اشتهاره بالأدب والفن ـ وإن لم يغنِّ للعامة؛ أما في حياته الخاصة، فقد صموتاً قليل الكلام مختصره، لا يجرؤ أهل بيته على رفع الكلفة وتجاذب الحديث معه. كانت زوجته سلامة شلاّلية تحكي أخريات أيامها لمن يتناول معها هذا الموضوع، خاصةً من أفراد الأسرة، كيف أنها لم تعرف أن الخليل كان يغنّي إلاّ بعد موته. فقد كانت تظن أنه ـ بخلاف ما أُثر عنه من غناء بالنوبية بصاي في أول شبابه ـ قد ترك الغناء والمعازف. فهي لم تره يحمل عوداً أو طنبوراً، كما لم تسمعه يترنم بلحن لأي أغنية، نوبية كانت أم عربية. في منتصف السبعينات سألت أخاه الأصغر علي فرح كيف لم يستوثقوا منه عن ديوانه الشعري عندما كان يرقد بستشفى النهر في أيامه الأخيرة. فضحك وقال لي بأن الخليل كان رجلاً صعباً مرهوب الجانب، لم يكن أحد من أفراد أسرته يجرؤ على الدنو منه. وقد ذكر كيف أنهم جميعاً كانوا يجلسون بالطابق الأرضي بمستشفى النهر، بينما الخليل لوحده بغرفته بالطابق الأول. وبين فينةٍ وأخرى كان واحد منهم يتسلل خفيةً للإطمئنان عليه، فإذا به واقفٌ يذرع الغرفة جيئةً وذهاباً وهو ينظر ساهماً من النافذة إلى الأفق البعيد عبر النهر. وقد استمرّ على هذه الحال حتى أعياه الوقوف والمشي في الليلة الأخيرة التي صعدت فيها روحه إلى بارئها.
في عام 1986م توفّيت ابنته عائشة بالكلاكلة، فجاءت عمّتها فاطمة (بابّا ييّا) من قرية عمارة بالسّكّوت للعزاء، وهي الأخت الوحيدة لخليل. خلال أيام العزاء استرعى انتباهها أحد أحفادها من أبناء المرحومة عائشة خليل، ألا وهو أحمد محمد أحمد هاشم (المعروف بأحمد دودو). فقالت لمن حولها من الأسرة: "أرأيتم أحمد دودو هذا؟ من أراد منكم أن يرى الخليل رؤيا العين شكلاً وطبعاً، فلينظر إلي أحمد دودو". في ذلك الزمان قبل أن يدخل في زمرة المغتربين فتنتفخ أوداجه سمنةً، كان أحمد دودو طويل القامة، رفيعها، أجعد الشعر، أخضر العينين، قمحي اللون أفتحه، صارماً، مقلاًّ للكلام داخل البيت، بشوشاً ضاحكاً خارجه، يغادر البيت والناس على مائدة الطعام دون أن يأكل شيئاً، فيسرع الخطا عسى أن يلحق بآخر ما في المائدة في منزل أحد أعمامه أو أبناء أعمامه المجاورة. هذه هي صورة خليل فرح داخل الأسرة، وهي صورة غائبة تماماً في الأدبيات التي كُتبت عنه.
ولد خليل فرح بدبروسة شمال مدينة وادي حلفا عام 1892م حسبما ورد في ديوانه ]علي المك، 1977]، وعام 1894م حسبما هو متعارف عليه بين أفراد أسرته، وهذا ما أورده أيضاً بدري كاشف [2000م] وهو ما نأخذ به. أما في أمر ولادته بدبروسة، فهناك احتمالان، أولهما أن ذلك حدث عندما هاجرت أسرته من صاي نحو الشلال الأول بأسوان هرباً من طلائع جيش ود النجومي المتقدمة نحو مصر أوائل عام 1891م. فخليل فرح من وردياب صاي (صيصاب) الذين كان يقودهم عبد الكريم (أوشّي) خيري وردي من ساب. وقد وقف الرجل ضد الأنصار وهزمهم في عدة مواقع قبل أن يضيّقوا عليه الخناق، مما اضطرّه إلى الهرب لمصر حيث لم يعد منها أبداً. الاحتمال الثاني أن تكون ولادته قد حدثت أثناء التسفار الذي عُرفت به أسرته باعتبار أن التجارة كانت حرفتها. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر اضطلع بدري كاشف خيري بالتجارة ما بين الخرطوم (لاحقاً أمدرمان) والأبيّض، عن طريق دنقلا، فأسوان عن طريق وادي حلفا. في رأينا أن هناك عدة أسباب دفعت به إلى هذا نكتفي بذكر إثنين منها؛ أوّلهما العمل الدؤوب للمحافظة على تجارة وردياب صيصاب في تنافسهم الشديد مع الحجّياب على احتكارها. الثاني قلة الموارد بالمنطقة، خاصةً وأن بدري كاشف أنجب "واحداً وعشرين ابناً وبنتاً واحدة هي طاهرة، وكان أحفاده ستةً وخمسين حفيداً" منهم خليل نفسه ]بدري كاشف، 2000: 7]. ولنا أن نلاحظ أن الاحتمالين لا يتناقضان، فأغلب الظن أنهما معاً كانا السبب وراء ولادته بدبروسة، شمالي مدينة وادي حلفا وكان بها معسكر الإنكليز المناوئ للمهدية. بهذا تكون أصوله من السّكّوت، أما القول بأنه من المحس، فذلك لغلبة اسم "المحس" على اسم "السّكّوت" بأواسط السودان، كما ورد ذكره من قبل.
عرفت أسرة بدري كاشف خيري سكنى الخرطوم في العهد التركي قبيل المهدية، مع بعض أسر أخرى من صاي (لمزيد من التفاصيل حول هذا، راجع صاي والكلاكلة أعلاه)، ثم حُملت على الهجرة إلى أمدرمان مع باقي سكان الخرطوم بأوامر الخليفة عبدالله التعايشي، فبقيت بها إلى اليوم، عدا الخليل الذي استقرّ بالخرطوم حيث كان بها منزله إلى أن مات. وقد اكتسبت هذه الأسرة جرّاء التسفار والتنقّل العديد من العلائق والصلات الاجتماعية. من ذلك العلاقة الخاصة التي ربطتها بآل العمدة أحمد شريف بوادي حلفا، وهي علاقة حافظ عليها الخليل نفسه حيث كان ينزل على هذه الأسرة في رحلاته من وإلى مصر. ثم الصلات الأسرية القوية بالعديد من الأسر بدنقلا، الأمر الذي مهّد لمصاهرات عدة نجم عنها فرع البدرياب بجزيرة مقاصر، فضلاً عن أصهار الأسرة من آل بركية بحفير مشّو ممن هاجر أصلاً من عبري إلى دنقلا ربما من أثر ذلك. فأم خليل فرح هي زهرة الشيخ من آل بركية بتبج، جنوبي عبري. تنقّل خليل فرح مع قوافل الأسرة التجارية عبر الصحارى والقفار في سني صباه وشبابه الأولى، حيث تركت هذه التجربة أثراً كبيراً على شاعريته وعمقها، كما لعبت دوراً أساسياً ـ فيما نرى ـ في تشكيل لغته العربية العامية. وسيكون أثر هذه التجربة في تشكيل لغته أحد الأبعاد التي سنعمل على إجلائها، وهو ما اعتبره الكثيرون من نقاده لغزا محيّراً. كما سيكون العمق الذي خلقته تجربة السفر تلك والسرى ليلاً في الصحراء أحد الأبعاد التي سنتلمّسها في شعره، وسنطلق عليه العمق الوجودي في شعر الخليل. وكل هذا مما لم يقف عليه أحد من قبل.
مع تسفار الخليل وتنقّله مع أهله في رحلات صيفهم وشتائهم التجارية، كانت صاي (صيصاب) هي المآبة التي يتفيّأ ظلالها ويلقي عندها عصا ترحاله. ففيها بدأ رحلة العلم في خلوة الشيخ أحمد هاشم (بابا شيخ أحمد)، وفيها تفتّحت عيناه على طبيعة ساحرة، يتعانق فيها النيل (بزرقته) مع الغابة والصحراء (في اخضرار الشطئان في الأولى ومحاصرة كثبان الرمال لها في الثانية). وهذه لوحة طبيعية لا يمكن لأحد أن يتصوّرها ما لم ير صاي. وقد صدق بدري كاشف في قوله: "نشأ خليل فرح في جزيرة صاي التي تحيط بها مياه النيل من جميع الجهات المختلطة بأنين السواقي وأصوات العصافير المغردة وحفيف أغصان النخيل الباسقة والشاهقة التي عاشت في وجدانه وتفاعلت مع أحاسيسه" ]بدري كاشف، 2000: 7]. وسيكون من أثر كل ذلك أن تصطبغ رؤيته الجمالية بنزعة انطباعية تصويرية تتجلّى بوضوح في شعر الطبيعة عنده. في هذا الصدد سنتحرّى موضوعين مهمّين، أولهما شعر الطبيعة عنده، وثانيهما مكانة صاي في شعره. ثم سنختم ذلك بالحديث عن النوبي الضائع في شخصية خليل فرح، ببيّنة ضياع شعره باللغة النوبية، وعلاقة ذلك بميكانيزم الاستعراب كنموذج مطروح للحداثة أمامنا ـ نحن السودانيين من غير العرب ـ ، وتحدّي أن نكون أو لا نكون.
[size=25]خليل فرح وشعر البداوة
أثارت إجادة الخليل للغة العربية العامية إعجاب الكثيرين، كما دفعت الكثيرين منهم للتساؤل عن الطريقة التي تعلم بها الخليل اللغة العربية، ذلك لأنه عندما قدم إلى أمدرمان لم يكن يجيدها. فمثلاً قال عن ذلك أبو قرون عبدالله أبو قرون [في بدري كاشف، 2000: ص 5]: "... وتجلت عبقرية الرّطّاني فقال شعراً فصيحاً". كما تعرّض الهادي الصديق في نقوشه على قبر الخليل ]1974] لعجمة لسان الخليل، فقال: "كان ذلك في جزيرة صاي أرض المعابد والمدافن ...، هناك يفتح التاريخ كنزاً جديداً ويرسل من بلاد طيرها أعجمي لساناً محسياً فصيحاً وشاعراً وفناناً يزن اللحظة من التاريخ بفنه ....". إن الكيفية التي أجاد بها الخليل اللغة العربية يمكن أن نتلمّسها في ذات الطريقة التي درج بها أبناء النوبة وغيرهم من أفارقة السودان ممن يولدون على غير العربية على تعلّمها. فمن المعروف أن العربية عند أغلب هؤلاء تمرّ بفترة كمون في الذهن والعقل والقلب، دون أن يبين عنها اللسان. وهكذا يمرّ بهؤلاء زمنٌ في باكر شبابهم يغالبون فيه عقدةً في لسانهم، ولا ينطقون بالعربية (عامّيها وفصيحها) إلاّ معاظلةً وفي تكلّفٍ شديد. ولكن في مرحلة معينة من شبابهم، تُحلُّ عقدة اللسان عندهم، فإذا بالعربية تنساب عندهم في كل مستوياتها مع لكنةٍ لا تخفى، بها ينماز أهل الشمال النوبي من أهل الجنوب النيلي، من أهل الغرب، وأهل الشرق وجبال النوبة والأنقسنا ، دواليك. إذن فهذا ما كان من تجربة الخليل مع اللغة العربية غالباً، وليس هناك ما يدعونا لنفترض غير ذلك.
بيد أن هذا لا يجيب عن التساؤل الأساسي، ألا وهو إجادة الخليل للغة العربية العامية كما لو كان قد وُلد وشبّ عليها. فإجادة الخليل للعامية العربية أثارت إعجاب معاصريه من شعراء ذلك الزمان، إذ بزّهم فيها، وهو الذي لم يكن يتكلمها عندما قدم إلى أمدرمان بعيد منتصف العقد الأول من القرن العشرين. إضافةً إلى ذلك فقد كانت عاميةً بدويةً وليست حضريةً. فالخليل جاء إلى العاصمة وعمره حوالي السادسة عشرة، فالتحق بكلية غوردون حوالي عام 1908م وتخرّج عام 1912م، وعمره حينها ثمانية عشر عاماً. وقبيل تخرّجه بقليل جرت المبارزة الشعرية (مجادعة) التي قادها الشاعر يوسف حسب الله (سلطان العاشقين) ومحمد عثمان بدري امتحاناً لشاعريته، وانتهت بالاعتراف به كشاعر مجيد ومتمكن من لغته ومتأدّب بأدب الشعراء المحبين، المُعفّين، العذريين. من المؤكّد أن الخليل لم يشرع في تعلّم العربية العامية بعد وصوله، وإلاّ لما تمكّن من إثبات تفوّقه فيها خلال مدّة لا تتجاوز السبعة أعوام. فاللغة العربية العامية التى أشعر بها الخليل مما لا يمكن أن تتأتّى إلاّ لمن نشأ عليها. إذن من المرجّح أن الخليل كان قد تعلّم تلك اللغة في صغره، فكمُنت في ذاته كمون النار في الحجر، حتّى إذا ما امتدت به السنون في العاصمة حيث الحديث كله بالعربية، انبثقت تلك اللغة من مكامنها جزلةً، فخمةً فجرت على لسان شاعرٍ فحل. فكيف وأين ومتى تعلّم الخليل تلك العامية السودان البدوية مجيداً ومتقناً لها؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أن نرجع إلى طفولة خليل فرح. بعد أن وُلد في حلفا، عاش الخليل طفولته وصباه في صاي حتّى تخرّج في خلوة بابا شيخ أحمد حيث كانت النوبية هي لغة المحكّ في المنزل والقرية. بعد ذلك درس الخليل في دنقلا متنقلاً باستمرار مع والده وأعمامه في رحلاتهم التجارية ما بين أسوان عبر حلفا وصاي، إلى دنقلا، فأمدرمان وبالعكس. هنا بدأ الخليل في تعلّم العربية الفصحى، وذلك عبر المناهج المدرسية كما هو العهد بكل أفارقة السودان. ولكن في تلك الأسفار بدأ الخليل في تعلّم لغةٍ أخرى سيكون لها أعظم الأثر في تاريخه الشخصي وفي تاريخ أمته، ألا وهي العامية العربية السودانية في مستوياتها البدوية والحضرية معاً. فمن المعروف أن تنقله مع والده وأعمامه كان حينها يتمّ بقوافل الجمال، بكلّ ما تشمل من فريق من العرب البدو، منهم من يعمل كدليل، ومنهم من يعمل كمشرف على الجمال، أكلها وشرابها. كانت هذه القوافل تستريح نهاراً في القيلولة، وتسافر فجراً وعصراً ثمّ آناء الليل. وكان الأعراب المرافقون لها يحدون إبلهم حثّاً لها لتغزّ السير. أما عندما يستريحون ليلاً، فقد كان ذلك أشبه ما يكون بمنتدىً أدبي، إذ كان أولئك البدو يتحلّقون حول النار يشربون الشاي وهم يتطارحون شعراً وإنشاداً. وكانت مطارحاتهم تحفل بالملح والطرائف، هجاءً ومدحاً، وتغزّلاً. من جانبهم كان النوبيون من أهل الخليل يتطارحون بلغتهم إنشاداً لما يعرف بغناء "الكلّكيّة"، وهو فنٌّ أُثر عن جلسات الخمر، ثمّ أصبحت له إستقلاليته ]راجع في ذلك: سيد مُسُل، 1974]. وقد أُثر عن الخليل إتقانه لهذا الجنس من الغناء بالنوبية. في ظنّنا أن الخليل تعلّم العربية العامية التي أنشد بها شعره وبزّ بها أقرانه، هناك في طفولته وصباه الباكر وهو يتنقّل مع والده وأعمامه في رحلاتهم التجارية.
مما يدعم قولنا هذا، العديد من التجارب المماثلة لنوبيين تعلّموا العربية العامية بنفس الطريقة. من هؤلاء امرأة من صاي/عبري من آل هاشم اسمها زينب أحمد شريف (حبوبة نونو) توفّيت عن عمر ناهز المائة، وكانت تتكلم العربية بطلاقة وتروي شعراً عربياً عامياً حفظته عن ظهر قلبٍ من أعرابٍ أقحاح في طفولتها. فقد درج آل هاشم بصاي وآل شريف بعبرين كونج على قضاء شهور الصيف بأطيان لهم تقع غرب صاي بالمكان المسمّى ساقية العبد (بالنوبية كِسّي، أي الكنيسة)، وذلك في موسم حصاد التمر. هناك كان ينضمّ لهم العديد من أعراب البادية العابرين والمقيمين موسمياً. في الليالي كان هؤلاء الأعراب يتحلّقون حول النار منشدين ومتسامرين. وقد كبرت حبوبة نونو وهي تحفظ الكثير من أشعارهم التي ظلت ترويها حتى آخر أيامها، وكانت امرأة حافظة للتراث المحلي والتاريخ الشفاهي ]راجع تسجيلات الهادي حسن أحمد هاشم التي سجّلها لحبوبة نون أوائل سبعينات القرن العشرين].
من ذلك ما حكته عن أعرابي أحبّ بنتاً من قرية أبْراقة، جنوبي صاي من الضفّة الغربية، فطرده أهلها من القرية وحرّموا عليه دخولها. كان ذلك في الفترة ما بين عامي 1907م وعام 1909م، ذلك لأن حبوبة نونو كان عمرها حينها حوالي 12 عاماً. وهم (أي آل هاشم وآل شريف) بساقية العبد، جاء ذلك الأعرابي العاشق بصحبة رجل الشرطة الوحيد بالمنطقة آنذاك، وكان من أغرابها واسمه "محجوب". قالت حبوبة نونو إنها كانت تصلّي بأعلى "القيف"، فجاء الأعرابي العاشق ومعه محجوب العسكري، فنزل الأخير كيما يتوضّأ في النيل، بينما جلس بجانبه العاشق، والذي شرع لتوّه في إنشاد قصيدة طويلة ظلت حبوبة نونو تنشدها كلها حتى آخر حياتها، ونورد منها البيت التالي:
تَحْفَى من الرّقا وتورد من الرقراقة
يا محجوب حليل السّاكنة بطن أبْراقة
ولنا أن نتصوّر أثر تلك التجربة المتقطّعة في طفلة عمرها لم يكن يتجاوز الثانية عشرة بأيّ حال من الأحوال، فقد كانت حبوبة نونو فصيحة في العربية العامية، مع أنها لم تغادر منطقة عبري طيلة حياتها، كما لم تتكلم بالعربية التي تعلّمتها فكمُنت في لاوعيها، إلاّ بعد أن كبُرت، فإذا بتلك اللغة تنبثق من تلافيف لاشعورها. لقد حفظت شعر أولئك البدو الذين اختفوا في مسارب التاريخ ليس بجزالة ألفاظهم فحسب، بل وبأساليبهم الأدائية أيضاً. وما ذلك إلاّ لشاعرية أصيلة عند حبوبتنا نونو، عليها رحمة الله، إذ قالت الشعر بالنوبية وبالعربية، فضلاً عن كونها أول من قام بترجمة أغنية (بلاّل يا بلاّل يالعجب بلاّل) من العربية العامية إلى النوبية.
ذلك ترجيحاً ما كان من أمر الخليل بشأن اللغة العامية التي كتب بها شعره.
العمق الوجودي في شعر الخليل: أثر الليل والأفلاك على شاعريته
نعني بالعمق الوجودي إحساس المرء بذاته من خلال وعيه بالوجود الكوزمولوجي في إطلاقه، أي إحساسك بأنك ذرّة أو نقطة في وجود لامتناهي؛ إحساسك بأنك مجرّد ثانية عابرة في زمن سرمدي. مثل هذه الأحاسيس تثيرها عامةً الطبيعة العارية مثل الصحراء والجبال والغابات، لكن أكثر ما يثيرها الليل بنجومه وشهبه ونيازكه، ذلك لأنه يكشف عن اللامتناهي. ويكون تأثير هذه التجربة أقوى إذا ما عايشها المرء في طفولته وباكر حياته، وهو ما عليه حالة خليل فرح. ولعلّنا لا نجانب الحقيقة إذا ما قلنا بأن شخصية الخليل قد تمّت صياغتها في طفولته الباكرة. فقد كان في طفولته ـ كما ذكرنا أعلاه ـ يتنقّل مع أبيه وأعمامه مسافراً على قوافل الجمال ومعايشاً للسرى. لهذا كثيراً ما يتردّد في شعره ذكر الليل والركاب والرحال، ثم البدر والنجوم والكواكب في إحساس عالي بالوجود أشبه ما يكون بوجودية الأطلال في الشعر العربي الجاهلي.
من ذلك ما قاله في أغنية "عزّة في هواك":
عزّة جسمي صار زي الخُلال وحظّي في الرّكاب صابُو الكلال
وقلبي لسَّ ما عِرِف المَلال أظِنُّو ود قبيل وكريم الخصال
ويشغل السرى وركوب المطايا حيّزاً كبيراً من شعر الخليل، لا في صوره الواقعية، بل في رمزية وجودية عميقة. من ذلك ما قاله في نفس الأغنية:
عزّة ما بنوم الليل محال بحسّب النجوم فوق الرّحال
وخلقة الزّاد كِمِل واْنا حالي حال متين أعود واْشوف ظبيّاتنا الكُحال
مثل هذه الإشارات والإيحاءات الوجودية قلّما تخلو منها قصيدة من قصائده. وهذا مما يؤكّد عمق تجربته الوجدانية في طفولته عندما كان يراقب أسمار البدو المرافقين لرِكابهم في أعماق الليالي، ويحفظ ما كانوا يردّدونه من شعر بلغةٍ رصينة ما كان له أن يصادفها وهو النوبي "الأعجمي" ـ مثلما يحلو لبعض النقاد أن يشير ـ إلاّ بمعايشة حقيقية لحياة البدو الأعراب.
يقول الخليل:
وقت الليل بَرَدْ طَلَع البدُرْ بكواكبُو
ولِحْقتْ الإبِل وادي الأراك برواكبُو
جادت واْسبلت عين المُحِب بسواكبُو
واحتلّ الفؤاد مَلِك الغرام بمواكبُو
ثم فلنتأمّل قوله:
في سموم الصيف لاح لُو بارق لم يزل يرتاد المشارق
كان مع الاحباب نجمُو شارق ما لُو والافلاك في الظلام
فكأنه يتحدّث هنا عن إحدى تجاربه في سفر القوافل وركوب المطايا نهاراً حيث السموم وحرّ النهار، ثم يأتي الليل والنجوم، الأفلاك والظلام.
خرج الخليل من هذه التجربة برصانة اللغة، مع حسّ وجودي عالي. وسيكون لهذا العامل أكبر الأثر في صياغة سيكولوجيته، وسعيه الحثيث كيلا يكون مجرّد شهابٍ شقّ عنان السماء ثمّ اختفى. وهذا الحسّ الوجودي نفسه الذي سيجعله يرثي نفسه ويبكي حياته القصيرة بعمر السنوات، الكبيرة بعمق التجربة. كما ستظلل حياته رنّة حزن عميق، وهو حزن وجودي ناجم عن التسليم بأن للحياة نهاية؛ هذا التناقض الوجودي بين الموت والحياة يتجلّى عبر خطاب يبدو في ظاهره كأنه عدمي، ولا شيئ أبعد من ذلك.
أنظر إلى قوله:
شاعرٌ أنتَ غيرَ أنّ الليالي خالياتٌ لم تأتنا بجديدِ
فإذا ذكرْتَ ماضيكَ فاذكُرْنا كلانا ذو طارفٍ وتليدِ
رُبَّ ماضٍ من الهوى بعَثتْهُ ذكرياتُ الهديل والتغريدِ
[size=25]الطبيعة في شعر الخليل
عاش الخليل طفولته في جزيرة صاي، وهي جزيرة فريدة في أمرها، فقد جمعت بين النيل والخضرة من جانب، ثمّ الجبل والصحراء من الجانب الآخر. فهي كجزيرة يحيط بها الماء من كل جانب، كما يتوسّطها جبل عدو الشهير؛ وتحيط بها الخضرة في أطرافها وضفافها، بينما منطقتها الوسطى حول الجبل قاحلة يغطيها الحصى. إلاّ أن أكثر ما يميّز صاي، مما كان له أكبر الأثر في شعر الخليل، شيئان هما النيل الذي يحيط بها، ثم كثبان الرمال التي ترتفع كالجبال في غربها والتي تراكمت عبر السنين. هذه هي حدود الصحراء الكبرى والتي يحدّها النيل بمحازاة جزيرة صاي من غربها. إن إحاطة النيل وخضرة صاي وارتباط ذلك مع كثبان الرمال سيتلازمان في شعر الخليل ـ كما سيرد أدناه. لكن ما يجدر ذكره في هذا الشأن، أن صاي بطبيعتها المتناقضة قد جمعت أهم العوامل التي شكّلت شخصية الخليل، فقد تصالح النيل والخضرة مع الصحراء والجبل والنجوم والكواكب. فيما بعد سيتجلّى هذا التصالح والانسجام في العديد من الأخيلة الشعرية، وذلك عندما يجمع بين أشياء تبدو وكأنها نقائض، موظّفاً أدوات البلاغة العربية من جناس وطباق ومجاز إلخ.
أُنظر إلى هذه المصالحة في قوله:
أنت كالبدر في عُلاك أنت كالروض في خلاك
ويبلغ شعر الطبيعة قمته عند الخليل في أغنية "في الضواحي وطرف المداين" وفيها يطلب الشاعر من نداماه في إبداعية نادرة وذلك بسبب أسلوبها المباشر أن يقوموا بالرحلة التالية:
في الضواحي وطرف المداين يللاّ ننظر شفق الصباح
ثمّ يهيب بهم أن يتملّوا في جمال الطبيعة، منبّهاً إياهم لما في الصورة من مهابة وروعة:
شوف محاسن حسن الطبيعة تلقى هيبة وروعة وجمال
في هذه الأغنية الرائعة كلماتٍ ولحناً يكشف الخليل عن تصالح وجودي بين عناصر الطبيعة المتناقضة، وهو تصالح في ظننا لا يقدر عليه إلاّ مبدع فنان؛ فقد تصالح الليل مع الصباح، كما تصالح البدر مع النجوم، كما تصالحت المدينة مع الريف، ثم تصالحت رمال الصحراء مع خضرة الوادي:
شوف صباح الوادي وجمالُو شوف خضارُو وصيدُو ورمالُو
شوف نسيم الليل صاحي مالُو شوف يمينُو وعاين شمالُو
شوف فريع الشّاو مين أمالُو القمر خجلان من كمالُو
والصباح لاح بَهَل الوشاح
يا الطبيعة الواديك ساكن ما في مثلك قط في الأماكن
يا جمال النّال في ثراكن يا حلاة الْبِرْعَنْ أراكِن
في قَفاهِن تور قَرْنُو ماكن لا غِشَنْ لا شافِنْ مساكن
في الخُزام والشّيح والبَراح
إن هذا التصالح يكشف عن تصالح آخر يتعلّق بشخصية الخليل، فقد آلف بين ذات المبدع المضطربة التي لا تستقرّ على حال في سعيها لاستكناه الوجود وإعادة إنتاجه عملاً إبداعياً به يحقق الإنسان ربوبيته، وبين تسليم صوفيٍّ بمقتضى الحال جعل الخليل رجلاً ملتزماً بمعايير الوقت الاجتماعية من قيم وأخلاق، فخرج من كل ذلك بذاتٍ مطمئنّة، ونفسٍ مستقرّة، عاشت ثمانيةً وثلاثين عاماً، كما لو كان كل يومٍ فيها يساوي خمسين ألف سنةٍ، ثم رحلت إلى ربّها راضيةً مرضية.
صاي في شعر الخليل
على شهرته، تحيط بخليل فرح العديد من المعلومات غير التاريخية التي ينحو الكثير من نقاد شعره وأدبه إلى ترويجها في محاولاتهم المستمرّة والمشروعة لإعادة إنتاج الخليل في صورة تلائم أوضاع حالية بعينها، ربما لا علاقة لها بما عاشه خليل فرح. وليس هذا خطأً في حدّ ذاته، فتلك سنة الناس في حال تعاطيهم للفن في أيّ جنسٍ من أجناسه، خاصّةً تلك التي تميل إليها أفئدتهم. من ذلك مثلاً ما قاله صديقنا أبو قرون عبدالله أبو قرون 00dff]بدري كاشف، 2000: ص 5]: "سكن الخليل بأمدرمان/ بيت المال وصار قلبها قلبه يحسّ ألمها ويرجو أملها وصار لسانها يتحدث بها وعنها فكان قلباً جسوراً ولساناً صادقاً وتجلت عبقرية الرّطّاني فقال شعراً فصيحاً". فهذا قول غير صحيح، ذلك لأن الخليل، بخلاف السنة الأولى التي قضاها بمنزل ابن عمّه كاشف خيري بأمدرمان عندما قدم للدراسة بكلية غوردون، عاش حياته إلى أن وافته المنيّة بالخرطوم. أنظر إلى قول جهبوذ أغنية الحقيبة الفريق إبراهيم أحمد عبد الكريم (عليه رحمة الله): "كان فن الغناء في تلك الأيام ... يتزعّمه الفنان محمد أحمد سرور وفرقته الفنية (الشيّالين) وقد ابتُكر هذا اللون من الغناء بأمدرمان. ومن روّاد هذه المدرسة الأمين برهان وعمر البنّا وعبدالله الماحي وكرومة وعلي الشايقي وغيرهم. أما مدرسة خليل فرح الخرطومية فقد استغنت عن الشيّالين وحلّت مكانهم الآلة الموسيقية ..." [بدري كاشف، 2000: 24]. وقد ذكر لي فرح خليل فرح (عليه رحمة الله) بأن منزلهم كان بالخرطوم في مواجهة نادي العمال في المنطقة التي بها الآن فندقا شهرزاد والخرطوم بلازا. كما كان لا يزال يتذكّر رجل الأعمال والبر والإحسان البغدادي بذقنه البيضاء، خاصةً عندما كان يجلس أمام منزله علي كرسي القماش. وقد أشرنا إلى هذا الحي النوبي الذي كان لأهل صاي الفضل في تأسيسه منتصف القرن التاسع عشر عندما استقرّ فيه يعقوب بن رمضان بن يعقوب، شقيق هاشم، مؤسس أسرة آل هاشم بسوكري، صاي. وذكر لي حسن أحمد هاشم أنه في الفترة ما بين 1926م ـ 1929م عندما كان وأخوه محمود يدرسان بمدرسة الخرطوم الأولية (التي درّس فيها رفاعة رافع الطهطاوي منتصف القرن التاسع عشر، وكانت تشغل مبنى برج البركة حالياً) كان يعيش مع الخليل في منزله بجوار نادي العمال حالياً، بينما كان محمود أخوه يعيش مع آل يعقوب بجوار صينية القندول حالياً. ومع كل هذا نجد أناساً كثيرين يروّجون لسكنى الخليل بأمدرمان؛ من هؤلاء مثلاً بدري كاشف نفسه عندما حكي عن عمّه الفنان خليل فرح فيقول: "أحبّ خليل فرح وطنه أمدرمان حباً شديداً وأدخلها في كثير من أشعاره ..." ]بدري كاشف، 2000: 8]. ومثل هذا القول لا يحق لأحد أن يرفضه إذا ما قيل باعتبار رمزية أمدرمان، ولكن قد يرفضه الكثيرون إذا ما طُرح على أنه وقائعي وتاريخي.
كذلك هناك معلومات نمطية شاعت عن الخليل جرّاء القراءة الأحادية لشعر يستند في إحدى قوئم إبداعه على الرمزية والإشارة مما يستوجب التأويل وقراء ما بين السطور، خاصّةً وأنه كما أشرنا إلى ذلك يجري في مستويين خاص وعام. من ذلك مثلاً اعتقاد الكثيرين أن الخليل لم يكن ذا ارتباط وثيق بقريته صاي. ونستشهد في هذا أيضاً بما قاله أبو قرون [المرجع السابق]: "... فتحية لك يا أيها المحسي ابن صاي الذي صرت الابن البار لامدرمان وقد جاء اسم موطنك الصغير في شعرك مرتين أو ثلاث مرات، أما أمدرمان فكانت شعرك وروح شعرك ...". بخصوص قوله عن الخليل "... يا أيها المحسي ..." كنّا تعرّضنا لمسألة انتساب السّكّوت للمحس حال هجرتهم إلى أواسط السودان في الفصل الثالث، فليُراجع في محلّه. لكن ما يهمّنا هنا مسألة ارتباط الخليل بالمنطقة النوبية عامةً وبصاي خاصةً، وهو ما سنتعرّض له أدناه. أما قوله :" ... أما أمدرمان فكانت شعرك وروح شعرك ..."، فالردّ عليه أن أمدرمان لم تكن غير رمزٍ للوطن بوصفها العاصمة الوطنية آنذاك. وهذا لا يغيّب أمدرمان المدينة، بل يدعم أهليتها. وبذات هذا المدخل الرمزي سنتناول مكانة صاي في شعر الخليل. وسيستند منهجنا في هذا على بينات من شعره وإفادات تحصّلنا عليها بخصوص بعض الدلالات والاستخدامات اللغوية في شعره، بها نستخلص قراءة جديدة لبعض مناحي شعره فيما يخص صاي، ومن ثمّ سنعمم هذه القراءة على مواضع بعينها نرى أنها تقبل تأويلاتنا.
بدءً تجدر الإشارة إلى أن الخليل كان يستصحب في وعيه تاريخ أمته من عصور ما قبل التاريخ إلى كوش مروراً بنبتة ومروي، فالممالك النوبية المسيحية، فالفونج إلى لحظته الحاضرة. وهذا تاريخ لم تتضح معالمه بالصورة التي نعهدها الآن إلاّ بعد وفاة الخليل بعقود.
في هذا فلنتأمّل قوله:
فنحن عصابةٌ للمجد نبني وما لقديمنا أبداً قديمُ
وكم أثرٍ لنا عفت الليالي وشابت وهو مجلُوٌّ وسيمُ
فسلْ سوبا وسل سنّارَ عنّا ووادي النخل تُنْبِئُك الرسومُ
فلو أن الخلودَ يُنال قسْراً لدام لنا ولكن لا يدومُ
أما قوله (ووادي النخل تُنْبِئُك الرسومُ) فإشارة واضحة للمنطقة الشمالية عامةً والنوبية بوجه خاص، وهذا من قبيل المشابهة بين وادي الملوك بالكرنك بالنوبة العليا بمصر حيث مدفن أغلب فراعنة مصر والنوبة. وفي الواقع مثل هذه الإشارات تكشف عن أحد أهمّ الأساليب الرمزية عند الخليل، خاصةً عندما يتعلّق الأمر بالمنطقة النوبية. فهو هنا دائماً ميّال لتوظيف الإشارة والرمز، الأمر الذي يستدعي إعمالاً عميقاً للتأويل في سبيل استكناه الدلالات التي تتداعي ويقبلها الخطاب الإبداعي للشاعر في البعد الخاص والشخصي الذي نوّهنا له.
شيئ آخر نشير إليه بخصوص شخصية الخليل ألا وهو تعلّقه بأهله وعشيرته، خاصةً إخوته. ربما يرى البعض أن هذا مما لا يحتاج إلى تذكير، فغالبية الناس متعلقون بذوي قرباهم. هذا صحيح، إلاّ أن ما يميّز الخليل هو أنه لم يكن يذكر أهله إلاّ في سياق تاريخي/إجتماعي حافل بالمجد والسؤدد والفخار. من ذلك مثلاً القصيدة التي قالها في مدح أخيه الأكبر "بدري" وكان أثيراً لديه لدرجة أن الخليل تزوّج بأرملته دون أن يكون بدري قد أنجب منها. فقد جرت العادة أن يتزوّج الأخ بأرملة شقيقه رعايةً لأيتامه وذلك حتّى لا يُساموا سوء العذاب على يد شخص غريب قد يتزوّج بأمهم. ولكن الخليل، ربما بدافع التأسّي والسير على درب عزيزه الفقيد شقيقه بدري، يختار أن يتزوّج بأرملته، فينجب منها ابنه فرح وابنته عائشة. بهذا كأنما بدري هو الذي أنجب. يقول في مدح أخيه بدر:
بقيت للخاصمك يا بدري سُمّاً ناقـع
وخلّيتُـهْم يكتكتـوا كالجداد الفاقـع
خريف الرّازّة شايلة مطر تقيل وصواقع
البتّـقِدُّو أبداً ما بتَسِـدُّ مراقـع خليل فرح رجل بقامه امة..[/size]كُلُّ شيئٍ إلى البلى غيرُ ذكرى صورةٍ من صبابةٍ وعهودِ [/size]