مرثية الأستاذ الكبير على صالح داوود.
ولا يفوتنا فى هذه السانحة أن نترحم على روح الأستاذ الرقم الكبير على صالح داوود الذى بعث بمرثيته إلى جريدة الحياة تحت عنوان: وداعاً طاهرَ الجَنْان ساكن الجِنْان طاهر عبدالرحمن, نصه كالاتى:
فى ليل الثلاثاء العشرين من ديسمبر الجارى وفى منزله الهادئ القائم بضاحية سوبا صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها إثر ذبحة صدرية طارئة لم تمهله إلا دقائق معدودات وقد أخبرنى أحد أصهاره الذين حضروا وفاته أن صديقنا الراحل عاش عمره كله مرتاحاً ومريحاً و هاهو اليوم يموت كما عاش على نفس الحال من الراحة والاراحة, لم يئن ولم يتأوة ولم يتقلب فى فراشه ولم يستنجد بأحد ممن كانو حوله وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة فيا سبحان الله، وما أشبه الليلة بالبارحة إنه الدكتور الطاهر عبدالرحمن طاهر الجَْنان( طاهر البدن والثياب طاهر اليد واللسان), صدقونى إننى لم أعثر فى حياتى الطويلة على شخص ينطبق إسمه على أوصافه مثل إنطباقه على أوصاف هذا الراحل الكريم والرجل العظيم, لقد كان حقاً طاهراً فى بدنه نظيفاً فى ثيابه عفيفاً فى يده ولسانه,لقد عاصرته وعاشرته فى مراحله الدراسية والعمرية المختلفة, فى الكُّتاب (المرحلة الابتدائية) فالمرحلة المتوسطة (الوسطى) وفى الثانوية بكلية غردون التذكارية حيث عشت معه فى عنبر واحد هو عنبر الحلفاويين فما وجدته قط قد غير طبعاً واحداً من طباعه النبيلة انفة الذكر. لم يضع سجارة فى فمه فى يوم من الايام ولا(صعوطاً) رغم شيوع العادتين الضارتين عند شباب ذلك الزمان وشيوخه, كما لم يتناول جرعة واحدة من الكحول ولا حفنة من الحشيش أو سواه من المنشطات التى يلجأ إليها البعض فى ساعات الدراسة المضنية بكلية الطب ,وكان رحمه الله من الذين عناهم المولى عز وجل فى كتابه العزيز بقوله: (...والذين هم لفروجهم حافظون) صدق الله العظيم.
إذ أنه عصم نفسه من العبث طوال عمره رغم إقامته الطويلة فى بلاد العرى والتفسخ والإنحلال عند مزاولته لمهنته وهو فى ريعان شبابه, وكان مقلاً جداً فى كلامه, مقبلاً على دروسه واعمال مهنته كل الاقبال, متمثلاً الحكمة السودانية القائلة: (السوَّاى مُو حدَّاث).وعلى ذكر أيام العنبر اذكر أننا كنا نقضى طرفاً من الليل بعد إطفاء الأنوار فى مرح وضحك ومزاح لا ينقطع ما شاء لنا اللهو.أما فقيدنا عليه رحمة الله فقد تعود أن يوقد شمعة فى كل ليلة بعد ساعة الاطفاء محتسياً شايه ليستذكر دروسه إلى ان يدركه النعاس قُبيل الفجر, كان يستشهد فى ذلك بنصيحة الشاعر القائل:
إذا نام غر فى دجى الليل فأسهر.... وقم للمعالى والعوالى وشمر.
ما كان أصبرك على الدراسة والتحصيل يا طاهر وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم.
فقد حصد ثمار جده واجتهاده ومثابرته درجات رفيعة وعلما ً نافعاً أفاد به الأخرين من أبناء وطنه ومن الاجانب.
كان رحمه الله فى شبابه رياضياً نشطاً تخصص فى السباحة حيث كان يعبر النيل الازرق عوماً مرتين دفعة واحدة دون أن يلتقط أنفاسه فكان له فضل حيازة داخلية (وِنجت) داخلية الحلفاويين وإحتكارها لدرع السباحة (الدرقة) لسنوات عديدة متتالية مما دعى رفاقنا بكلية غردون إلى تلقيبه بلقب (تمساح النيل) وأحيانا (تمساح حلفا) كما كان طيب الذكر عسكرياً بارزاً ايام الكلية حيث كان من أوائل الملتحقين بفرقة التدريب العسكرى (الكاديت) ونال عدداً من الأشرطة والانواط عهد الأنجليز وإبان الحرب العالمية الثانية حيث إنتُدب ضمن قلة من الطلاب للسفر إلى المملكة الليبية انذاك ليعمل مع الجيش الثامن التابع لجيوش الحلفاء (جيوش المارشال مونتقمرى) التى هزمت الألمان فى معركة العلمين, وقد عمل فقيدنا الغالى بمدينة لندن فى المملكة المتحدة جراحاً لأمراض النساء فى بعض مستشفياتها بعد أن نال أرفع الدرجات المهنية فى جامعات إنجلترا واسكتلندا, وقد شاء حظي أن التقي به هناك لعدة شهور وأنا فى بعثة تعليمية, كان ذلك فى العام 1955 للميلاد, ومن طريف ما اذكره عنه فى تلك الفترة اننى مرضت ذات يوم بألتهاب رئوى حاد دعانى الى الإستنجاد به فما كان منه إلا أن لبَّى النداء سريعا كعادته رغم مشاغله وأجرى الفحص على صدرى ليخبرنى أن حالتى الصحيه ليست على ما يرام وأننى مهدد بما هو اسوأ ما لم أبادر بالذهاب الى اقرب مستشفى لإستكمال العلاج, ولما رأى الذعر باديا ًعلى وجهى إثر سماعى لحديثه بادرنى بالقول مبتسماً: لكن لا تخف من شئ فإنى اضمن لك الشفاء ومعاودة الحياة؟ قلت له مستغرباً كيف؟ قال: ألم تسمع قول القائل
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ان الكلاب طويلة الاعمار)؟ فضحكت وضحك وكانت نكتته قد خففت عنى كثيراً مما كنت أعانيه من الام الصدر ووحشة الغربة, فقلت له مداعباً: ليت كل الناس صاروا كلاباً ليعمروا. رحمك الله يا طاهر الجَنْان وساكن الجِنْان.
حاشيه:- الأستاذ على صالح داوود كان رقماً كبيراً و رمزاً من رموز النوبة, فهل من يلقي الضوء علي سيرة هذا الرجل الرمز.
هذه هى سيرة المرحوم بروفيسور الطاهر عبدالرحمن محمود حسبما استحضرته بذهنى فقد كنت لصيقاً به اكثر من ابنائه رغم اختلاف الرأى بينى وبينه فإختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. ليس هذا تقليلاً من شأن أبنائه فهم فى مكان القلب مني ولكنه فضلُ الله علىّ والله يؤتي فضله من يشاء, فهل من مدخلات تضيف أو تعقب من الذين كانوا لصيقيين به.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]